القيم الأخلاقية في السياسة المالية الإسلامية

نموذج للإعجاز القرآني والنبوي في المجال المالي

الدكتـور السيد عطية عبد الواحد*

مقدمة البحث

يؤسس الإسلام المجتمع على أصول ومبادئ تميزه عن غيره من النظم. فالإسلام يقوم على طريقة البناء المتكامل وإرساء الأسس السليمة: عقدية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية. وكلها تكوّن بناءً متجانساً متماسكاً يؤدي إلى مساعدة المجتمع أن يحرز أفضل النتائج. وهذه المنهجية المتكاملة يندر أن توجد في أي نظام آخر.

لقد أرسى الإسلام أخلاقيات عديدة في المجال المالي نكتفي بأن نذكر منها جانباً يقطع بإعجاز هذا المنهج الإلهي في المجال المالي فضلاً عن المجالات الأخرى.

الـمبحث الأول : الأمر بالدعاء لكل مـن يـؤدي حـق الزكاة

نص على هذا الخلق الكريم – الذي يندر أن يوجد في غير النظام الإسلامي – القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم ٌ} [التوبة: 103].

وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: (اللهم صل على آل فلان, فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى).

(…) يرتبط بهذه النصوص حقيقة شرعية معجزة في المجال المالي وهي توجيه محصل الزكاة بالدعاء بالبركة لمن يؤدى حق الزكاة.

يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وصل عليهم ) أصل في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة.

أما عن حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: (اللهم صل عليهم), فأتاه والد أبو أوفى بصدقته , فقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى).

قال جماعة من العلماء يدعوا آخذ الصدقة للمتصدق بهذا الدعاء لهذا الحديث. وأجيب عنه بأن أصل الصلاة الدعاء إلا أنه يختلف بحسب المدعو له فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته دعاء لهم بالمغفرة وصلاة أمته دعاء له بزيادة القربة والزلفى ولذلك كانت لا تليق بغيره, وفيه دليل على أنه يستحب الدعاء عند أخذ الزكاة لمعطيها.

(…) كما يأمر الإسلام المصدق (محصل الزكاة) بحسن معاملة الممولين, فإنه يأمر كذلك الممولين بحسن معاملة المصدق. وهكذا يرسم الإسلام علاقة تبادلية رائعة بين الممول وإدارة الزكاة علاقة يتوجها التعاون المتبادل بين الطرفين.

لقد أمر صلى الله عليه وسلم بحسن معاملة عامل الصدقة حتى يؤدي عمله وينصرف وهو راض , فقال صلى الله عليه وسلم (لا يصدر المصدق عنكم إلا وهو راض).

وجه الإعجاز:

يرسم الإسلام صورة رائعة للعلاقة بين الممول وإدارة تحصيل الزكاة. فيؤمر محصل الزكاة بنصوص صريحة بأن يدعو بالبركة للمتصدق. وكذلك يؤمر الممول بحسن معاملة القائمين على إدارة الزكاة.

وهذه العلاقة الحسنة الطيبة بين عامل الزكاة وبين الممولين دعامة قوية من دعامات نجاح نظام الزكاة كنظام مالي, ومثل هذه العلاقة الحسنة يندر أن توجد بهذه الأخلاقيات في غير الزكاة.

المبحث الثاني: اشتراط الحِلَّ في الإيرادات الإسلامية

يرشد إلى هذا الأساس الأخلاقي – الذي لا مثيل له في النظم الأخرى – آيات قرآنية متعددة, وكذلك الكثير من أحاديثه صلى الله عليه وسلم.

النص المعجز:

قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [البقرة : 267].

ويرشد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة الكسب الطيب بقوله: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب, ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه, حتى تكون مثل الجبل).

الحقيقة الشرعية المرتبطة بالنص:

يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) وعلماء التفسير على أن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا) خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن عباس أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن الله طيب لايقبل إلا طيباً ولهذا قال (ولاتيمموا الخبيث) أي تقصدوا الخبيث (منه تنفقون ولستم بآخذيه) أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه.

وجه الإعجاز:

باستقــراء ما سبق يتضــــح أن الإسلام يؤسس النظام الاقتصادي والاجتماعي على أساس احترام أسس ومبادئ معينة, تشكل في مجملها دستور هذه الأمة ومن ذلك ضرورة أن تكون الإيرادات التي تعتمد عليها الدولة دائماً من مصدر حلال.

إن الإسلام يقيم مجتمعاته على أساس التكافل والتعاون الممثل في فريضة الزكاة وغيرها من الالتزامات المالية التي قررها الإسلام.

إن الدستور الذي يرسمه الإسلام في المجال الاقتصادي وكذلك في غيره من المجالات إنما هو دستور مظلل بظلال حبيبة أليفة, دستور يحترم الآداب النفسية والاجتماعية, والآداب التي تحول الزكاة عملاً تهذيبياً لنفس معطيها, وعملاً نافعاً مربحاً لآخذيها, وتحول المجتمع عن طريقها إلى أسرة يسودها التعاون والتكافل والتواد والتراحم، وترفع البشرية إلى مستوى كريم: المعطي فيه والآخذ على السواء.

المشرع الوضعي لا يشترط حِلَّ الإيرادات التي تحصل أو مشروعيتها:

لا يشترط فقهاء المالية العامة في التكاليف التي تخصم أن تكون قد أنفقت في غرض مشروع. ما دمنا لا نتمسك بمشروعية الربح الخاضع للضريبة. فالأرباح الناتجة عن عمليات غير مشروعة تخضع للضريبة سواء أكان مصدرها قانونيا أو غير قانوني. (…)

الـمبحث الثالـث: التحذير من اصطفاء كرائم الأموال عند تحصيل الزكاة

يرشد إلى هذا الخلق الكريم السنة النبوية المطهرة , وقد جاء ذلك في أكثر من حديث منها:

(عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب, فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله, فإن هم أطاعوك لذلك, فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة, فإن هم أطاعوك لذلك, فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم, فترد على فقرائهم, فإن هم أطاعوك لذلك, فإياك وكرائم أموالهم, واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. رواه الجماعة).

الحقيقة الشرعية المرتبطة بالنص:

ترشد الأحاديث السابقة إلى خلق رفيع في المجال المالي وهو ضرورة التوسط في اختيار المال الذي يشكل وعاء الزكاة. فلا ينبغي على المحصل أن يطلب أفضل الأموال ولا أقلها جودة, وإنما يتوسط في ذلك, وفي ذلك مراعاة حقيقية لظروف الممول.

وقوله صلى الله عليه وسلم (فإياك وكرائم أموالهم) كرائم منصوب بفعل مضمر لايجوز إظهاره والكرائم جمع كريمة أي نفيسة (وفيه دليل) على أنه لا يجوز للمصدق أخذ خيار المال, لأن الزكاة لمواساة الفقراء, فلا يناسب ذلك الإجحاف بالمالك إلا برضاه.

وجه الإعجاز:

تنطق النصوص السابقة بإعجاز في النص النبوي الشريف لا يمكن أن تصل إليه بحال من الأحوال التشريعات الضريبية المعاصرة, والتي تقرر حق الامتياز لَدْينِ الضريبة, أما المنهج الإسلامي فإنه يأمر محصل الزكاة بأن يأخذ مالاً من أوسط الأموال التي يمتلكها الممول.

إن مراعاة المنهج الإسلامي – على طول الخط – لفطرة الإنسان في كافة مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمالية وغيرها من مجالات الحياة لهو دليل حقيقي على سمو هذا المنهج ورقي ذلك التشريع, وبنفس الدرجة يشكل دعامة قوية لنجاح النظام المالي الإسلامي.

موقف القانون الوضعي:

يتجه المشرع الوضعي في تحصيل الضريبة اتجاها يغاير تماماً المنهج الإسلامي فالإسلام يحرص على بث روح السماحة والألفة والمودة عند تحصيل الزكاة أما المشرع الضريبي الوضعي فإنه يعطي للضريبة أولوية وامتيازاً على غيرها من الحقوق.

المبحث الرابع: خلق الترفع عن الأخذ من المال العام حتى ولو كان حقاً مقرراً

النص المعجز: ما رواه البخاري من أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال ” سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني, ثم سألته فأعطاني ,ثم سألته فأعطاني, ثم قال: يا حكيم “إن هذا المال خضرة حلوة, فمن أخذه بسخاوه نفس بورك له فيه , ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه, كالذي يأكل ولايشبع, اليد العليا خير من اليد السفلى. ثم قال حكيم: فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا, فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً إلى العطاء فيأبى أن يقبله, ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاً فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي.

الحقيقة الشرعية المرتبطة بالنص:

يؤدي الأساس العقدي الذي تقوم عليه السياسة المالية الإسلامية دوراً جوهرياً في نجاح السياسة المالية الإسلامية في تحقيقها لأهدافها. ويظل هذا الأساس مؤدياً دوره حتى يصل إلى مستوي الترفع عن الأخذ مما هو مقرر له من الحقوق المالية. وتظل المثل الإسلامية تؤدي دورها في خدمة السياسة المالية الإسلامية ومساعدتها على تحقيق أهدافها حتى تصل بالفرد المسلم إلي أن يترفع عن أن يأخذ مما هو حق مقرر له في حصيلتها ويفضل العمل على ذلك, ولعل ذلك هدف يصعب أن يصل إليه أي تشريع آخرغير التشريع الإسلامي.

وجه الإعجاز:

إن التربية الإسلامية التي يتربى عليها المسلم تجعله يصل إلى مرتبة يترفع معها أن يأخذ مما هو مقرر له في حصيلة السياسة المالية الإسلامية, ونعتقد أن هذا الهدف يصعب على أي نظام مالي آخر أن يصل إليه بسبب افتقاده للأساس العقدي الذي يتمحور حوله النظام المالي الإسلامي.

الأساس العقدي يجعل المسلم يجود بأفضل أمواله:

إن التربية الإسلامية لا تصل بالمسلم لأن يترفع فقط عن الأخذ من المال العام ولو كان حقاً مقرراً له بل تصل به أن يجود بأجود أمواله وأنفسها في سبيل الله تعالى, وهو في كل ذلك يستجيب للنداء الإلهي المتمثل في قوله سبحانه وتعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ).

الـمبحث الخامس: أهداف تنفرد السياسة المالية الإسلامية بتحقيقها ولا مثيل لها في المالية الوضعية (هدف تنمية الخصال الحميدة في المجتمع)

النص المعجز:

1- قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بدرجة أفضل من الصلاة والصيام والصدقة قالوا بلى, قال: صلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة).

2- (عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله, أو ابن السبيل, أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك, (رواه أبو داود).

وفي لفظ: (لاتحل الصدقة إلا لخمسة: لعامل عليها, أو رجل اشتراها بماله, أو غارم, أو غاز في سبيل الله, أو مسكين تصدق عليه بها فأهدي منها لغني) (رواه أبو داود وابن ماجه ).

الحقيقة الشرعية المرتبطة بالنص:

من تمام حرص الإسلام على تنمية الخصال الحميدة داخل المجتمع المسلم, أنه أباح أن يعطي من الزكاة من غرم في سبيل الإصلاح بين متخاصمين وذلك حتى لا تموت الخصال الحميدة في المجتمع المسلم, بل وجب على المجتمع أن يتعهد تلك الطاقات بالتنمية والتشجيع بكافة الصور.

وقوله صلى الله عليه وسلم (حَمَالة) بفتح الحاء المهملة وهو مايتحمله الإنسان ويلتزمه في ذمته بالاستدانة ليدفعه في إصلاح ذات البين, وإنما تحل له المسألة بسببه, ويعطي من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية وإلى هذا ذهب الحسن البصري والباقر والهادي وأبو العباس وأبو طالب. وروي عن الفقهاء الأربعة والمؤيد بالله أنه يعان لأن الآية لم تفصل وشرط بعضهم أن الحمالة لا بد أن تكون لتسكين فتنة.

وبالإضافة لما سبق فإن لهذه الوظيفة جانباً اقتصادياً هاماً (وهو المساهمة في زيادة الإنتاج والمساعدة في تمويل التنمية الاقتصادية), ويظهر ذلك حينما ينفق من حصيلة الزكاة لسداد ديون الغارمين ,فإن هذا يعني أن بيت المال يضمن للدائن وفاء دينه, وفي هذا دعم للائتمان لأن المقترض في غير معصية للقيام بتجارة أو صناعة أو فلاحة سوف يطمئن إلى أنه إذا عجز عن سداد دينه, فإن المجتع ممثلاً في الدولة سـوف يؤدي عنه دينه.

وجه الإعجاز:

إن السياسة المالية الإسلامية نظراً لقيامها على أساس عقدي, فإنه يمكن أن تذهب في تحقيق أهدافها لمدى يصعب أن تصل إليه المالية الوضعية. فمن مظاهر الإعجاز في المجالين المالي والاقتصادي أن السياسة المالية الإسلامية تعتبر أن من الأهداف المنوط بها تحقيقها هدف الإصلاح بين المتخاصمين, وفي تحقيق هذا الهدف نشر للسلام الاجتماعي في المجتمع. كذلك تستطيع السياسة المالية الإسلامية أن تذهب لتحقيق أهداف متعددة يصعب على السياسة المالية الوضعية أن تصل إليها, مثل هدف تزويج من يريد أن يتزوج وغير ذلك من الأهداف الاجتماعية.

ــــــــــــــــ

* أستاذ بكلية الحقوق جامعة عين شمس. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.55a.net