الكلمة “المفتاح” في الحديث الشريف

من الإعجاز البياني والروحي في الحديث الشريف

العميد الركن المتقاعد الدكتور محمد فرشوخ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد

يقول الله تعالى في كتابه العزيز عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} (سورة النجم).

ويقول المصطفى عن نفسه: “أوتيت جوامع الكلم” [1]، فيما فضله الله تعالى على سائر الأنبياء.

وسأل الصحابة الكرام النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله مالك أفصحنا لسانا وأبيننا بيانا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن العربية اندرست فجاءني بها جبريل غضة طرية كما شُقّ على لسان إسماعيل عليه السلام”.[2]

وجوامع الكلم فيما شرحه أهل العلم تعني فيما تعنيه، وقبل كل كلام، القرآن الكريم الذي هو كلام الخالق المعجز جلّ وعلا، لكننا هنا قصدنا المقارنة فيما بين كلام الخلق من دون الخالق سبحانه، نجد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خصائص متميزة، فقد صيغت معانيه الغزيرة والعميقة بألفاظٍ قليلة، وهو كلام ذهب مضرب الأمثال لحسنه وبيانه وبلاغته ورشاقته إضافة إلى حكمته وأحكامه، وفي ذلك يقول الإمام البخاري: (بلغني في جوامع الكلم إن الله جمع له الأمور الكثيرة في الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك)، أي أن الكلام القليل له معان كثيرة ومرامٍ متعددة. ومن جوامع الكلم ما لم يعرفه أحد من قبل لا في لغة العرب ولا في غيرها ومنه ما تعلمه الصحابة الكرام والمسلمون عامة من الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في مناجاة الله عز وجل. ومنه كذلك إجمال طلب الخيرات والاستعاذة من المعاصي والمنكرات.

وفي فيض القدير: “أوتيت جوامع الكلم”، أي أوتيت (ملَكةً أقتدر بها على إيجاز اللفظ، مع سعة المعنى، بنظم لطيف، لا تعقيد فيه يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار الذهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذهن إلا ومعناها أسبق إليه) [3]. أي معنى بيّن مقنع يسابق الكلمة إلى العقل.

وللحديث الشريف علومه، روايةً ودراية، كعلم رواة الحديث وعلم روايته وعلم قبول الحديث ورده وعلوم المتن وعلوم السند…

والحديث الشريف الصحيح يُعرَف عقلاً، من توافقه مع كتاب الله عز وجلّ، كيف لا والنبي المصطفى هو المكلف بتبليغ كتاب الله للناس وشرحه وتفصيله. فلا سبيل إلى التناقض.

 وعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : أَلا إِنَّ رَحَى الإِسْلامِ دَائِرَةٌ ، قَالَ : فَكَيْفَ نَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : اعْرِضُوا حَدِيثِي عَلَى الْكِتَابِ ، فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ مِنِّي ، وَأَنَا قُلْتُهُ [4].

كما أن للحديث الشريف أثر روحي يخترق القلوب مع الأسماع، وهذا من جوامع الكلم أيضاً حيث أن لتعابير المصطفى صلى الله عليه وسلم سمة مميزة ونكهة محببة خاصة به، يعرفها أهل الدراية في علم الحديث والحفّاظ والدعاة وأولئك الذين أحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وعشقوا سيرته وكلامه.

وكأن لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر روحي يشير إليه ويدل عليه، فمن صدق في حبه وفي اتباع نصحه إنجذب إلى الصحيح منه فينشرح له صدرا، ويتفتح به عقلا، ويترسخ في ذهنه كرماً من الله وفضلا.

ولمن عاش مع الأحاديث الشريفة، وعاش فيها، وتخلق بما قدر عليه منها، وأحب قائلها صلى الله عليه وسلم، فتح معجز آخر هو بيت القصيد في بحثنا هذا.

وهو” الكلمة المفتاح” في الحديث الشريف، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم على بلاغته وفصاحته وجمال بيانه وإعجاز علمه، يزيد على سائر كلام الناس، بأن في كل حديث شريف، على الغالب طبعاً، كلمة واحدة على الأقل أو عبارة موجزة، لا نجدها إلا في حديث واحد دون سواه.

وبهذه الكلمة أو العبارة الفريدة يصبح كل حديث منفرداً في لفظه ومعناه. متميزاً بوزنه وموسيقاه، ومحبباً إلى الناس بمغزاه.

كما يسهل عند أهل الدراية الاستناد إليه وتذكره عند الحاجة إليه. وعلى سبيل المثال نذكر بعض ما نصبوا إليه:

فلئن قلت: “من يرد الله به خيرا” لأجابك السامعون بتتمة الحديث:”يفقهه في الدين”. ولن تجد في أي حديث آخر مثل تلك العبارة حرفياً.

ولو قلت: “بُنِيَ الإسلام ” لأتم من حولك: “على خمس…” وذكروا أركان الإسلام.

وحتى في الأحاديث الطوال تبقى الكلمة المفتاح مفتاحاً لتذكرها، فإن سمعت “فليحمد الله” تتذكر الحديث الشريف الذي ينتهي بعبارة ” فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه “.

وحتى في الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلما تكررت عبارة في دعائه الشريف ولو ذكرت “كلمة مفتاح” من أي دعاء وما أكثر هذه الكلمات لأتمها الناس من حولك ولرددوا بقيتها كمثل “طرفة عين “، فيقولون: “اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت”، أو إن دعوت: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي”، لتابع الناس معك:” وقلة حيلتي وهواني على الناس ….”. ولئن سمعت: “ما قدّمت وما أخّرت”، لتذكر المؤمنون كامل الدعاء: “اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت ما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير”.

والعجيب في مثل هذه الكلمات أنها إذا استعملت اكثر من مرة فإنه يدخل عليها شيئ من الصرف أو النحو بما يميزها عن سواها فتبقى لكل حديث فرادته وميزته وغايته: فإن قلت”الكيّس” (معرفة)، لأتممت ” من دان نفسه وعمل لما بعد الموت”.. ولئن قلت “كيّس”(نكرة) لأتم الناس حديثاً غيره:”المؤمن كيّس فطن”.

ولئن قلت”التقوى ههنا” لأتمها من يسمعك:”… بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”.

وإذا سمعت عبارة “عش ما شئت” تذكرت حديثاً واحداً ليس له شبيه: ” أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس”

ولئن استعملت العبارة المفتاح مفردة فلن تتكرر بعد ذلك إلا بالجمع أو المثنى، فإن قلت:”لا يشبعان” لن تجد في الحديث الشريف إلا حديثاً واحداً يضم هذه العبارة المفتاح وهو:”إثنان(أو منهومان) لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا (أو طالب مال). والمعنى والقصد واحد.

ولن تجد حديثاً جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمتي” لسانه ويده” إلا في حديث متكرر واحد:” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده “.

ومن الطبيعي أننا نتحدث عن كلمة مفتاح وليس عن إسم موصول أو إسم إشارة أو ضمير ولا حتى عن كلمة شائعة كثيرة الاستعمال مثل : الانسان والمؤمن والكافر والشيطان والسماء والماء والأرض والجنة والنار…

وفيما يلي وعلى سبيل الإيضاح بعضٌ من مفاتيح الكلام، وما أكثرها، في الأحاديث الشريفة:

الكلمة المفتاح

العبارة المفتاح

تتمة الحديث

السند

البر

حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس

[5]

داووا

مرضاكم بالصدقة

 

أبغض الحلال

إلى الله الطلاق

[6]

آية المنافق

ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان

[7]

خير الذكر

الخفي، وخير الرزق ما يكفي

[8]

حفت الجنة

بالمكاره، وحفت النار بالشهوات

[9]

حبب إلي

من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة

[10]

حبك الشيء

يعمي ويصم

[11]

بلغوا عني

ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،

ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار

[12]

بشر المشائين

في الظلم إلى المساجد، بالنور التام يوم القيامة

[13]

تابعوا بين الحج والعمرة

فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة؛

وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة

[14]

خير بيت في المسلمين

بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه،

أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا

[15]

دخلت امرأة النار

في هرة ربطتها (أو حبستها)، فلم تطعمها،

ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت

[16]

بيت لا تمر فيه

 جياع أهله

[17]

بروا آبائكم

تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم

[18]

وهذا ليس إلا غيض بسيط من فيض الكلمات المفاتيح في الحديث النبوي الشريف.

وأما من أسرار هذه الكلمة المفتاح ومن فوائدها، أنها ترسخ في ذاكرة المؤمن المواظب المحافظ، كالعلماء والحفّاظ والدعاة والموفقين من المؤمنين، بحيث أنها تعين كلاً منهم خلال حديثه أو بحثه، فتراها تتألق في ذهنه، وتذكره بنفسها، وما أن يتذكرها أو يذكرها حتى يستحضر الحديث الذي وردت فيه بأكمله، كما تعين المتحدث او الباحث على تذكر الآيات المناسبة لإتمام الفكرة وتمتين الحجة، وهذه منة الله تعالى على عباده الصادقين وهدية من سيد المرسلين لمن أحبه وصدّق كلامه.

فالكلمة المفتاح تضيف إلى صدق الحديث سرعة الرجوع إليه والاستناد عليه، فإذا بالأحاديث الشريفة على لسان الدعاة تترى فتغني البحث وتقوّيه، وتعزّز الباحث وتثريه.

هذا الفضل من الله تعالى على المحبين، زيادة في شرف النبي صلى الله عليه وسلم، وتأكيد لعلماء اللغة ولعشاق البلاغة أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ككلام سائر الناس، وهو ليس بالشعر ولا بالنثر الذي يعرفه العرب والعجم، إن هو إلا تأكيد بأن الرسول الأكرم لا ينطق عن الهوى وأنه مرسل من ربه بكلام  سامٍ ومخصوصٍ ومميز، رحمة للعالمين، فهنيئاً لمن اتعظ وصدق وآمن.

فسبحان الله الذي أعطاه الحجة والبرهان وألان له العبارة واللسان وأعطاه القرآن وعلمه البيان.

جعلنا الله تعالى من الصادقين الهادين المهديين غير ضالين ولا مضلين. والحمد لله رب العالمين.

 



[1]   متفق عليه.

[2]  إبن عساكر عن أنس.

[3]   فيض القدير في شرح الجامع الصغير للإمام المناوي، حرف الهمزة.

[4]  المعجم الكبير للطبراني، عن ثوبان.

[5]  البخاري في الأدب وصحيح مسلم والترمذي عن النواس بن سمعان

[6]  أبو داود وابن ماجة والحاكم في المستدرك عن ابن عمر

[7] متفق عليه [البخاري ومسلم] والترمذي والنسائي عن أبي هريرة

[8] أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان عن سعد

[9] أحمد في مسنده وصحيح مسلم والترمذي عن أنس صحيح مسلم عن أبي هريرة أحمد في مسنده في الزهد عن ابن مسعود موقوفا

[10]  أحمد في مسنده والنسائي والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن أنس

[11] أحمد في مسنده والبخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي الدرداء، الخرائطي في اعتلال القلوب عن أبي برزة، ابن عساكر عن عبد الله بن أنيس

[12]  أحمد في مسنده وصحيح البخاري والترمذي عن ابن عمرو

[13]  أبو داود والترمذي عن بريدة ابن ماجة والحاكم في المستدرك عن أنس عن سهل بن سعد

[14] أحمد في مسنده والترمذي والنسائي عن ابن مسعود

[15] البخاري في الأدب وابن ماجة وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة

[16]  أحمد في مسنده ومتفق عليه [البخاري ومسلم] وابن ماجة عن أبي هريرة وفي صحيح البخاري عن ابن عمر

[17]  أحمد في مسنده وصحيح مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن عائشة

[18]  الطبراني في  الأوسط عن ابن عمر.