معجزة النطق آية ربانية

د. هارون يحيى*

قال الله تعال في كتابه العزيز:

{ الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ }[1].

النطق هبة من الله:

يبدأ الإنسان بالتكلم عندما يصل إلى عمر معين.

clip_image449

وهذه الحادثة تتراءى لنا وكأنها شيءٌ طبيعي لأنها تبدأ عند الجميع في عمر متقارب. ولهذا السبب ربما يظن بعض الناس أن المحادثة أو الكلام أمر عادي، والحقيقة أن التحدث معجزة خارقة ذلك لأن الطفل لم يكن يعرف أي شيء عن الكلام قبل أن يبدأ بالتكلم.

يقول عالم اللسانيات البروفيسور steven pinker والمعروف بأبحاثه المتخصصة في هذا المجال: “إننا لا نفكر بالنطق ونعتبره أمراً عاديا، وننسى بسهولة أنه معجزة وهدية عجيبة لنا” [2].

بكل تأكيد عندما يتحدث الطفل فجأة بدون أن يعرف أي شيء عن الكلام وأسراره… هذه هي المعجزة. (…)

هناك أسئلة كثيرة بقيت دون جواب حول اللسان واللغة…

 clip_image450غلاف كتاب اللغة غريزة

 كيف يتحدث الطفل وهو في الثالثة من عمره؟

وهل يتعلم ذلك من خلال ما يسمعه من بيئته؟

ومن الذي يلقنه قواعد اللغة وقواعد اللسان التي عجز العلماء عن وضع أصولها وقواعدها على أكمل وجه حتى الآن؟

وكيف تسيل الكلمات من فمه بشكل انسيابي لائق موافقاً قواعد اللغة المعقدة؟

ثم كيف تنجح الكلمات والجمل لتشكيل الأصول اللغوية وإعطاء الشرح والمعنى ؟

ولماذا تشكلت أكثر من ستة آلاف لغة متفرقة؟

ولماذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي ينطق وبقية الأحياء لا تستطيع الكلام؟

ماذا يحصل في أذهاننا حتى تتحول الأفكار إلى كلمات وجمل؟

والجملة التي تصدر عن الإنسان لم تعرف بعد حقيقتها لما فيها من العمليات الدقيقة والمعقدة.

ومن الواضح أن النطق لا يؤخذ من خلال التعلم أو التعليم، لأنه لا أحد يعلمنا أسس آلاف الجمل والكلمات التي نعرفها؛ وبالأصل تعليمها غير ممكن.

فمثلاً: عندما يتحدث المرء يؤلف جملاً نظامية مع أن المتحدث لا يعرف شيئاً عن الأساسيات المعقدة الموجودة في الكلمات والجمل التي ينظمها ويستطيع أن ينطق بسهولة ويُسر منظماً جملاً ربما لأول مرة تخرج من فمه. كل هذا بعفوية بالغة ودون أن يشعر بها. هذا العلم اللساني المعقد لم يستطع علماء اللسانيات المشهورون أن يُعرّفوه تماماً.

إن النطق هو عملية معقدة، يتحدث عالم اللغة المعروف “Philip Lieberman” عن هذه القواعد التي لا حصر لها:

“مع نتائج الأبحاث الهائلة وتوسعها، تقترب عدد القواعد والأصول التي نحسبها موجودة من عدد الجمل. وتأتينا القواعد اللغوية بشكل مفجع وتنتهي بفشل ذريع. ولم يستطع أحد حتى الآن أن يضع قواعد كاملة وشاملة عن لغة من اللغات[3]. يرى ليبرمان أن قواعد النطق بالجمل تتساوى مع عدد الجمل فكيف مع هذا العدد الهائل للقواعد تسنى للطفل ابن الثلاثة سنوات أن يتكلم؟

يبدأ الإنسان حياته الاجتماعية بتعلمه قواعد اللغة واللسان. والشيء الأكثر وضوحاً هو أننا لم نأخذ علم النطق من آبائنا ولا من غيرهما. هذه الحقيقة يعرضها لنا البرفيسور المدرس في جامعة” “MiT الأستاذ “steven pinker” قائلاً:

كيف يستطيع طفل صغير أن يأخذ اللغة وعلم اللغة- والذي هو علم لا ينتهي- من الأحاديث القليلة والمقننة التي تجري حوله. والطفل حقاً لا يأخذ مهارة الكلام من أبويه، وفي الوقت نفسه لا يقوم الأبوان بتصحيح أخطاء الطفل دائماً. ولا يحذرانه بحصول الخطأ في حديثه أو كلامه. وجمل الأطفال الصغار غالباً لا تتناسب مع قواعد اللغة وإذا كان الحال هكذا فيجب على الأبوين توبيخ ولدهما طوال النهار[4].

إننا نستعمل قواعد علم اللغة ونستخدمها دون أي جهد منا لأننا نجدها جاهزة أمامنا. وإذا وضعنا أمام أعيننا بعض الحسابات المعقدة فإن قواعد الكلام تضع الإنسان في حيرة من أمره.

لهذا السبب بقيت مهارة النطق عند الإنسان سراً رياضياً بحتاً بكل ما في الكلمة من معنى – هذا السر المجهول يوضحه لنا “Noam Chomsky” فيقول:

أني لا أملك إلا معلومات قليلة حول علم الكلام عدا بعض الجوانب الظاهرة من الخارج، فالتكلم هو سر كبير بكل المقايس.[5]

عندما يبدأ كل شخص بالتكلم بكل راحة، وعندما يعرف أنه يستخدم لسانه على أكمل وجه، عندما يضع كل ذلك نصب عينيه يعرف أنه يقوم بذلك دون أي معرفة أو قصد منه.

إذا كنا لا نستطيع أن نضبط الكلمات الخارجة من أفواهنا. فيجب أن يكون ثمة قوة خفية تلهمنا وتعطينا العلم والمعرفة كي نؤلف جملاً من كلمات. هذه القدرة هي قدرة الخالق العظيم وهو صاحب العزة والعلم والمالك لكل شيء.

إن الله يلهم الإنسان ويجعله يتكلم. ولا يستطيع إنسان ما أن يفتح فاه ولو بكلمة واحدة بغير إذن الله. إن مهارة التكلم هبةٌ من الله للإنسان قال الله تعالى في كتابه الكريم: {1} الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الْإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ {4} (سورة الرحمن: 1ـ4).

تعدد اللغات آية من آيات الله:

كيف لا تختلط اللغات التي نعرفها ببعضها البعض؟

من المعروف أن الذين يتحدثون بلغتين لا يخلطون بينهما. و قد تمت أبحاث عدة لمعرفة السبب في عدم اختلاط الكلمات لمن يتقن عدة لغات عند النطق بإحداها. فقد أجرى أحد علماء الدماغ هو توماس مونتي “Thomas Munte” بالتعاون مع رفاقه عددًا من التجارب وذلك لمعرفة التغيرات الكهربائية الحاصلة في بعض نقاط الدماغ عند النطق وذلك من خلال مراقبة تكتيك رنين المهام المغناطيسية. ولقد تمت التجربة على الذين يتحدثون الإسبانية مع لغة كاتالان وهي اللغة المستعملة في شمال شرق إسبانيا[6]. فكانت نتائج التجارب أن الدماغ يقوم بتخزين مفردات كل لغة من اللغات التي ينطقها الإنسان في قسم مستقل من أقسام الدماغ وذلك حتى لا تختلط ألفاظ اللغتين أثناء النطق. (…)

وهذا يعني أننا عندما نتحدث بلغة ما، تبقى اللغة الأخرى مضغوطة لسبب غير معروف حتى الآن، وبالتالي تمنع الاختلاط والتمازج. وعندما يتحول المتحدث من لغة إلى أخرى فإنه يقوم بتغيير المصافي الموجودة في الدماغ والتي لا تعرف شيئاً عن الكلمات الجديدة الملفوظة.

ويقول دافيد غيرين David Green جاذباً انتباهنا إلى هذه المعجزة[7]:

“السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: كيف يتم ضبط كل ذلك ؟”.

إن الجواب بدون أدنى شك يتم بشكل مبرمج مسبقاً من قبل الله تعالى الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[8].

(…) إن هذا النظام يضع أمامنا قدرة الله الذي خلقنا في أحسن صورة ودون نقص. وأعطانا هذه النعمة، نعمة الجسد والروح وكل ما فيهما ومن ذلك نعمة البيان.

إن الله تعالى يبين لنا في كتابه أن تعدد اللغات التي يتكلم بها الإنسان هي من الأدلة التي تدل على وجود الله تعالى، قال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} [9].

نظام التكلم المعجز:

عندما يريد الإنسان أن يتكلم تصل سلسلة من الأوامر إلى الحبال الصوتية واللسان ومن هناك إلى عضلات الفكين آتية من الدماغ. إن المنطقة التي تحوي أنظمة الكلام في الدماغ ترسل الأوامر الضرورية لكل العضلات التي تقوم بواجباتها أثناء الكلام.

تقوم الرئتان قبل كل شيء بجلب الهواء الساخن وهو المادة الخاصة للنطق. يدخل الهواء عن طريق الأنف، ومن ثَمَّ إلى الفراغات الموجودة فيه ومن الحنجرة إلى قناة التنفس ثم إلى الأوعية القصبية ثم إلى الرئتين ويمتزج الأوكسجين الموجود في الهواء مع الدم الموجود في الرئتين وفي هذه الأثناء يطرح غاز ثاني أكسيد الكربون إلى الخارج. ويمر الهواء الخارج من الرئتين بالحبال الصوتية التي تشبه الستائر، وتتحرك بحسب تأثير غضروف صغير مربوط بها.

تم تصوير الحبال الصوتية بكاميرات ذات سرعة فائقة. كل العمليات الواردة في الصورة تتم خلال عُشر الثانية. هذا التصميم المتقن للحبال الصوتية يجعلنا نتكلم. قبل النطق تكون الحبال الصوتية بوضعية مفتوحة، وعند الكلام تُجمع الحبال الصوتية في مكان واحد، وتهتز من جراء الهواء الخارج عند الزفير.

تُعطي بنية الأنف والفم كافة المواصفات الخاصة للصوت. وفي الوقت الذي تبدأ فيه الكلمات بالخروج من هذا القسم بسلاسة يأخذ اللسان وضعاً بين اقتراب من سقف الفم أو ابتعاد بمسافات محددة، وتتقلص الشفاه وتتوسع، وتتحرك في هذه العملية عضلات كثيرة بشكل سريع. وحتى يتحقق النطق عند كل واحدٍ منا بشكل سليم يجب أن تكون هذه العملية كاملة دون أي نقص.

أفلا نلاحظ أن هذه العملية المعقدة والكاملة تتم بشكل ميسر وكامل وبدون نقص؟ إذن من الذي برمج دماغ الإنسان مسبقاً للقيام بهذه العملية سوى الله تعالى الخالق البارئ المصور.

أليس حرياً بنا نحن البشر أن نشكر هذا المنعم الذي تفضل علينا بهذه النعمة قال تعالى:{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[10].

________________________________________

* وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.harunyahya.com

[1] – سورة الرحمن: 1ـ4.

[2]..Pinker Words and Rules, Basic Books, 1999, s. 1 s

[3] – “Eve spoke: Human Language and Human Evolution, P. Lieberman, w. w. norton & company, 1998, s. 126-128”

[4] – S. Pinker Words and Rules, Basic Books, 1999, s. 1

[5] – Noam Chomsky, Powers and Prospects, s.16.

[6] – مجلة “Nature” 28 شباط 2002.

[7] – وغرين أستاذ جامعي يعمل في جامعة لندن ومعروف بأبحاثه اللسانية.

[8] – التين:4.

[9] – الروم:22.

[10] – ابراهيم:7.

المراجع العلمية التي يمكن الرجوع إليها

http://en.wikipedia.org/wiki/The_Language_Instinct