وجوه من إعجاز القرآن الكريم

بقلم الدكتور محمود أحمد الزين*

 

بسم الله الرحمن الرحيم، له الحمد وبه المستعان ، وعلى حبيبه سيدنا محمد وآله وصحبه أفضل الصلاة والسلام.

وبعد فقد ترددت بين الناس كلمة تقول : إن إعجاز القرآن أمر لا يدركه إلا العلماء المتخصصون . وهي كلمة غير صحيحة ، لأن من وجوه إعجاز القرآن ما يمكن أن يدركه كل إنسان، وإن كان منها ما لا يدركه إلا العلماء ، ومنها ما لا يدركه إلا أكابر العلماء .

وفي هذا البحث عرض لوجوه من الإعجاز خمسة اخترتها من بين وجوه أخرى كثيرة:

أولاً – الاعجاز في التأليف:

وهو الوجه الذي يدركه كل الناس وهو مذكور في القرآن الكريم ذاته في قول الله تعالى: }ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) { النساء 82) .

أي لكان بعضه متناقضاً ، وبعضه قاصرًا ، وبعضه خطأً ، وبعضه ضعيفاً ، وإذا وجد في القرآن شيء من ذلك ، كان فيه نفي الإعجاز عنه ، مهما حوى بعد ذلك من صواب ، لأن الله تعالى لا يمكن أن يصدر منه أي خطأ ، فإذا خلا كتاب من الخطأ دل ذلك على أنه من عند الله سبحانه دلالة قاطعة ، إذ لا يمكن لأحد أن يخلو عمله من الخطأ الا الله تعالى ، أو أن يعصمه الله سبحانه .

والمراد بالخطأ الذي نفاه القرآن الخطأ الحقيقي للمعلومات التي لا شك فيها ويجمع العلماء عليها.

(1)- أثر مرور الزمن على أي كتاب من صنع البشر:

وأي كتاب من عند غير الله تعالى تتزايد أخطاؤه بمرور الزمن وتوالي الأيام وظهور الاكتشافات والعلوم الحديثة. فلو سألنا العلماء في أي اختصاص كان عن نسبة الأخطاء في كتاب ألفه صاحبه قبل مئة سنة، لكانت إجابتهم أن وجود الخطأ يصبح أمرًا محتمًا لا ريب فيه ، إذن ماذا يقولون لو طرحنا السؤال عليهم بعد ألف سنة ؟ وقد طرحت هذا السؤال ذات مرة على طبيب فقال :إن تطور المعلومات الطبية في ألف عام لا بد أن يكشف أن أكثر هذا الكتاب صار أخطاء .

(2)- أثر تعدد الموضوعات والعلوم على زيادة احتمال الخطأ في الكتب :

لقد افترضنا أن الكتاب في علم واحد هو الطب ، واختصا ص واحد منه هو طب العيون ، وهذا يقلل احتمال وقوع الخطأ ، أفلا تزيد نسبة وجود الخطأ إذا افترضنا إضافة الاختصاصات التي لها صلة بطب العيون كأمراض المخ والأعصاب وأمراض الدم ، وكالجراحة والصحة العامة ، والغذاء وأمثالها ؟ نقول هذا مع بقاء المستوى العلمي في الأطباء الذين شاركوا في التأليف والمراجعة والتصحيح ، ومع بقاء العدد الأكبر منهم؟ إن نسبة الخطأ في هذه الحالة سوف تزيد وإن لم تكن كبيرة، لكنها ستكون كبيرة بلا شك إذا نحن افترضنا أن الكتاب يشتمل على كل الفروع الطب الجسمي منها والنفسي . أما إذا أضفنا إلى الطب في هذا الكتاب علومًا أخرى تكمله وتساعده كالصيدلة والكيمياء والتحليل المخبري ، و طبائع أجسام الحيوان ))البيولوجيا )) ، وعلم النبات ، وعلوم الأجهزة الطبية وصناعتها كأدوات ا لجراحة والتصوير والتحليل ، فنسبة الخطأ بلا شك تكون أكبر عددًا كلما تعددت الاختصاصات والعلوم ، وتكون آكد تحققًا ، لا سيما بعد مرور ألف سنة كما تقدم .

(3)- أثر انفراد المؤلف على احتمال الخطأ في الكتاب :

كلما ازداد عدد العلماء المشاركين في التأليف قلّ احتمال الخطأ. وإذا انفرد عالم لوحده في اعداد الكتاب ازداد احتمال الخطأ بسبب النقص في التعاون وبمرور الزمن تصبح معلومات الكتاب مشوبة بأخطاء جسيمة لا يقرها بقية العلماء.

(4)- أثر مستوى التحصيل العلمي عند المؤلف على احتمال الخطأ في الكتاب :

أما ما هو أهم من ذلك كله فهو ملاحظة المستوى العلمي للمؤلف ، فماذا حال الكتاب ونسبة الخطأ فيه إذا مر عليه ألف عام تعدد الاختصاصات والعلوم ، ومع عدم وجود التعاون ، ومع المستوى العلمي الأقل ، كما لو افترضنا أن المؤلف كان طبيبًا مختصًا، لكنه ليس في رتبة الأستاذ ((البروفيسور)) ولا شك أن نسبة الخطأ تزيد حينئذ ، لأن المستوى العلمي للمؤلف هو أهم عناصر التأليف ، يرتقي الكتاب برقيه ، ويضعف بقلته ، وهذا يظهر أكثر إذا افترضنا المؤلف طبيبًا عامًا غير مختص ، وتتعاظم الأخطاء إذا افترضنا ممرضًا ، وتتفاحش الأخطاء ويتكامل ظهورها إذا افترضنا حامل شهادة المدارس الابتدائية ، فماذا يكون حال الكتاب إذا كان صاحبه أميًا أملى الكتاب على بعض أصحابه إملاء ؟ .!!

ماذا يكون في هذا الكتاب من صواب عند تأليفه بغض النظر عن تطور العلوم عبر الأزمان الطويلة؟ . !!

هذا المثال يوضح لنا حالة القرآن مع من جاء به يعرضه على الناس ويدعوهم إلى الإيمان به ، إنه النبي الأمي الكامل الأمية ، فقد كان هو أميًا ، في بلد أمي في أمة أمية ، وجاء هذا القرآن الذي يشتمل على علم العقيدة الإسلامية بتفاصيلها ، وعلى علم مقارنة العقائد الدينية مقرونة بأدلتها ، ومقارعة المخالفين بالحجة والبرهان ، وعلى علم أساسيات التشريع بكل جوانبه : العبادات مع بيان مقاصدها وآثارها ، والقوانين : قانون الأسرة ، الأحوال الشخصية ، والقانون الاقتصادي ، والجنائي ، والعسكري ، والدولي ، وقانون المرافعات من شهادة واعتراف واستدلال وغير ذلك، واشتمل على دستور الأخلاق الإنسانية وأهم قضاياها ، وعلى مجمل تاريخ الوجود الإنساني في أهم مراحله ، و مجمل تاريخ الأديان وما طرأ عليها من تغيير ، واشتمل على قواعد مهمة جدا من علم النفس ، وعلم الاجتماع ، وقطوف من الطب والطبيعة، وغير ذلك ، يسوق كل هذا بطريقة تربوية تعمق أثره في النفوس ، وبأسلوب أدبي رفيع ، هو وحده معجزة مستقلة .

وهو مع ذلك كله يقول : إن هذا الكتاب لا يوجد فيه أي خطأ موثق بالدليل الصحيح ، وهو يتخذ من ذلك دليلاً على أنه من عند الله } ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) {النساء82) .

وهو يتحدى المتشككين بأن الله الذي أنزله يقول } وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) { البقرة 23) .

وهذا التحدي ليس مقصورًا على قومه أو جيله أو عصره ، بل هو يقول } قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) {الإسراء88) .

هل يمكن أن يعجز البشر عن كشف خطأ واحد في كتاب تعددت علومه ، جاء به إنسان واحد أمي ، من بلد أمي ، ومن أمة أمية ، وقد مضى على الكتاب ألف وأربعمائة عام ؟ هل يمكن أن يعجز البشر هذا العجز لو كان الكتاب من تأليف هذا الإنسان ؟

البداهة تقول : لا يمكن ، والعلم العميق يقول : لا يمكن . فهو إذن معجز لا يقدر عليه إلا الله ، ولا يأتي به إلا الصادق الأمين وحيًا من عند الله .

ثانيًا – الإعجاز التشريعي

والإعجاز التشريعي يظهر في الأمور الثلاثة التالية : الاعتراف العلمي العالمي به ، والاعتراف التشريعي العالمي به ، وعدم احتياجه إلى التعديل خلافًا لكل قوانين الدنيا .

(1) – أما الاعتراف العلمي العالمي به : فيظهر في تلك الدراسات ا لجامعية من رسائل الماجستير والدكتوراة في الشريعة الإسلامية ، لا في جامعات العالم الإسلامي فقط ، بل في العالم الغربي الذي يتبنى عداء العالم الإسلامي والدين الإسلامي ، وكذلك الأمر في كثير من بلدان العالم غير الإسلامي في الشرق ، وهذا اعتراف ضمني من الجميع ـ حتى الخصوم ـ بأن هذا التشريع يستحق أن يدرس دراسة علمية على أعلى المستويات ، فهل يمكن أن يأتي أحد بكتاب على هذا المستوى وهو أمي في بلد أمي في أمة أمية ؟ . !!

-(2) وأما الاعتراف التشريعي العالمي به : فيظهر في قرارات المؤتمرات العالمية :

أ ـ مؤتمر القانون المقارن في مدينة لاهاي في جمادى 1356 هـ ـ ) أغسطس 1937)

حيث اتخذ القرار التالي : اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر التشريع العام [1].

ب ـ مؤتمر المحامين الدولي في مدينة لاهاي(15 ـ 22 أغسطس 1948 ) حيث ا تخذ القرار التالي : نظرًا لما في التشريع الإسلامي من مرونة وماله من شأن هام يجب على جمعية ا لمحامين الدولية أن تتبنى الدراسة المقارنة له ذا التشريع وتشجع عليها[2]، والتشريع الإسلامي أساساته كلها في القرآن .

ج ـ بل عقد مؤتمر في كلية الحقوق من جامعة باريس (2/7/1951) باسم : أسبو ع الفقه الإسلامي. كان من جملة قراراته المتعلقة بالشريعة الإسلامية ما يلي :إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها … ويرغب المؤتمرون أن يظل أسبوع الفقه الإسلامي يتابع أعماله سنة فسنة [3].

أيعقل أن يؤلف التشريع الإسلامي ـ الذي يقر خصومه هذا الإقرار ـ إنسان مهما عظم علمه ، فكيف الأمي في بلد الأمية والأمة الأمية ؟ !!. أم هو تنزيل العليم الحكيم؟ .!!

(3) – وأما عدم احتياجه إلى التعديل خلافًا لكل قوانين الدنيا ، فهذا برهان من الإعجاز يستطيع كل مثقف مهما قل مستواه الثقافي أن يتأكد منه ، فكل قوانين الدنيا تظل دائمًا بحاجة إلى التعديل حسب تغير الظروف وتغير الشعوب وتغير الأوطان .

وأقرب مثال على ذلك هو القانون الروماني ، الذي ظل الرومان ينقحونه مئات السنين، ثم أخذ منه العالم الغربي قوانينه ، وهي عرضة للتعديل دائمًا، حتى صار الفارق بينها وبين الأصل كبيراً ، وهذا التعديل قاعدة تشريعية معترف بها عالمياً . لكن التشريع الإسلامي ـ الذي وضع القرآن أساساته ـ ظل سائداً في المجتمعات الإسلامية ثلاثة عشر قرنًا دون حاجة إلى أي تعديل ، إلا إذا كان ضمن قواعده هو ، وأحكامه هو ، وحينئذ يكون التعديل لما أدركه العلماء منه ، لا تعديلا له ، أما هو فاستغنى عن التعديل ، رغم تغير الأزمان وتغير الأوطان وتغير الشعوب ، و ظل يفيض أمنًا وسلامًا على المسلمين إلا حين يخالفه الحكام والقضاة ، ولا يزال أثر ذلك الأمن موجودًا في البلاد الإسلامية بعد زوال حكم الشريعة الإسلامية منها ، يختلف حظها من الأمن قرب نظامها من الشريعة الإسلامية ، وحسب قرب عاداتها منها ، أو حسب قرب شعبها من مفاهيم الإسلام وأخلاقه وسلوكياته.

ترى هل يعقل أن تكون حاجة كل قوانين الدنيا إلى التعديل مستمرة رغم اعتمادها على الدراسات القانونية الجامعية ، وعلى أنواع شتى من هذه الدراسات ، وعلى مشاورات كثيرة لأعضاء اللجان المتخصصة في الدراسات التشريعية ، بينما يستغني التشريع الإسلامي عن التعديل إلا ضمن قواعده وأحكامه و ثوابته ، مع أنه جاء به رجل أمي في بلد أمي في أمة أمية ، أيعقل ذلك إلا إذا كان الذي جاء به رسولاً مؤيدًا من عند الله تعالى .

ثالثًا – الإعجاز الأدبي

إن الحديث عن الإعجاز الأدبي في القرآن: وهو أنه ارتقى في البلاغة حتى صار في مستوى يعجز عنه البشر أفراداً و جماعات ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا – هذا الحديث يطول كثيراً ، وهو أحوج أنواع الإعجاز إلى الاستعداد في التحصيل الدراسي وفي التذوق ، وتوضيحه أصعب ما يكون ، لا سيما في وقتنا الذي تضاءلت فيه إمكانية إدراكه حيث غلب على الدارسين ضعف الاستعداد ؛ لقلة التحصيل الدراسي وضعف التذوق .

لكن هناك مقدارًا يمكن بيانه وهو الإ يجاز العظيم في هذا الكتاب ، فرغم كل العلوم التي تناولها مما سبق ذكره في هذه الرسالة الصغيرة . لا يتجاوز حجمه حجم كتاب صغير من مقياس الصفحات المعتاد 18 × 25 سم ولا تتجاوز صفحاته150 صفحة لو طبع بالحرف المتوسط كما في الكتب المتداولة ، وهو مع ذلك فيه تكرار غير قليل في القصص والأخبار كقصة موسى عليه السلام وتكرار في تناول الموضوعات كموضو ع التوحيد والشرك .

والإيجاز من أهم عناصر البلاغة في النصوص الأدبية مع المحافظة على الوضوح كما في القرآن الكريم ، حتى قال بعض علماء البلاغة : البلاغة هي الإ يجاز ، تر ى أيمكن وجود هذا المقدار من الإ يجاز في استطاعة البشر ؟ .!

فإذا نحن أردنا دليلاً من أهل الاختصاص في الأدب والبلاغة فيكفي أن نذكر أن هذا القرآن أول ما تحدى البشر تحداهم ببلاغته حتى قال } قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات { (هود 13) .

والافتراء ليس له مضمون حقيقي ، فالتحدي أسلوبي حتمًا ، ثم تنازل معهم في التحدي فقال } فأتوا بسورة من مثله { مع أن بعض السور كلماتها بضع عشرة كلمة .

وبعد أربعة عشرة قرنا لم يقدم خصوم القرآن أي نص أدبي يعارضه ، إلا تلك المنقولة عن مسيلمة وأشباهه مما هو سخرية في نظر البلغاء ، ترى ما الذي منعهم من المعارضة لو كان ذلك في استطاعتهم ، وما الذي دعا مفاوض النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ، وهو الوليد بن المغيرة إلى أن يقول لهم : والله ما منكم رجل أعرف بالشعر مني ، ولا أعلم بزجره ولا بقصيده ولا بأشعار ا لجن ، والله ما يشبه الذي يقوله شيءًا من هذا ، و والله إن لقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته .

أيمكن أن يكون أحد منهم قادرا على ذلك ويتوقف عنه رغم التحدي الشديد والتوبيخ والتنديد ؟ .!

إن مجرد الفضول الأدبي يدعو الإنسان الذي يجد في نفسه القدرة أن يستجيب ، فكيف إذا كان يجد القدرة وتكون نتيجة المعارضة كسر هذا الخصم الذي حاربوه وحاربهم بكل سلاح؟ ولقد عارضوا شعراءه حين اشتعل الهجاء بينهم ، ولكنهم لم يعارضوه قط، أيمكن أن يكون لذلك سبب سوى أنهم عن المعارضة عاجزون ، تحقيقا لقول الله تعالى وهو يكشف للخلق حجب المستقبل } فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) { البقرة 24). ولا سبيل إلى اتقائها إلا الإيمان به .

رابعًا – الإعجاز بكشف المستقبل

ومن أدلة الإعجاز باب الحديث عن الغيب : ولا سيما المستقبل الذي لا يوجد بين يدي من يخبر عنه شيء من دلائله، ولنأخذ لذلك مثلا قول الله تعالى{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}) الحجر9) .

فسنرى عند التأمل أمرًا عجيبًا ، وأول ما يظهر من ذلك تميزه على الكتب السابقة ، فلا يوجد في العالم كتاب آخر حوفظ على مضمونه ولم يتغير فيه حرف ولا كلمة ولا جملة بينما تعرضت كل الكتب الأخرى بلا استثناء لضياع كثير وتدخل من الناس كثير.

ولننظر كيف يسر الله أسباب الحفظ لهذا الكتاب تيسيرا لا يعرف له نظير .

(1) تو ثيق الكتب كان أمرا بعيد الحصول في الأمة الأمية نادر الأدوات من ورق وأقلام فكتب القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حسب ما تيسر في نسخة له خاصة ، وفي نسخ يكتبها لنفسه كل قارئ في ا لجلود والألوا ح الخشبية أو الحجرية .

(2) حفظوه في صدورهم حفظا حرفيا فكثر حفاظه ، حتى قتل منهم في معركة بئر معونة سبعون حافظا ، فكم كان الحفاظ الآخرون ؟ .

(3) أعيدت كتابته في خلافة الصديق حين كثر القتلى من حفاظه ، مع المقابلة بين النسخة الأولى النبوية وحفظ الحافظ ومنهم الكاتب وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه ، وهذه هي نشأة علم مقابلة المخطوطات وتوثيقها ، وهوعلم لم يكن معروفا لا سيما عند العرب ، وفي مكة والمدينة بالذات ، لقد نشأ هذا العلم لأجل القرآن خاصة ثم انتقل إلى غيره .

(4) ولما نقل الناس بعضهم من بعض عن غير نسخة الأصل وعلى مناهج إملائية غير موحدة وقع اختلاف في القراءة ، فأعيدت الكتابة مرة ثالثة بمنهج إملائي موحد، في عهد عثمان رضي الله عنه ثم أحرقت النسخ الأخرى ، وألزم الناس جميعا ألا ينقلوا إلا من هذه المصاحف التي تمت فيها المقابلة على الوجه السابق ، لكي لا يتجدد الاختلاف.

(5) ظل القرآن ينقل بالسند المتصل حتى يومنا هذا في بداية العقد الثالث من القرن الخامس عشر الهجري، مع الاعتماد على الكتابة والسماع معا، وشيوخ الإسناد معروفون يقصدهم طلبة العلم لذلك.

ونشأت علوم متعددة كمّل الله تعالى بها هذا الحفظ وهذا الضبط من حيث النطق والكتابة منها :

(1) علم رسم القرآن.

(2) علم القراءات.

(3) علم التجويد.

(4) اخترع العلماء طريقة تمييز الحروف المتشابهة بواسطة النقط ، كالفرق بين الجيم

والحاء والخاء بالنقط ، وهو شيء لم يكن معروفا عند العرب طول تاريخهم .

ونشأت علوم أخرى تخدم معاني هذا القرآن الكريم وتفسيره:

(1) علم الصرف.

(2) علم النحو.

ثم نشأت علوم التفسير

1- علم مفردات القرآن الكريم.

2- علم إعراب القرآن.

3- علم الأساليب القرآنية.

4- علم قواعد تفسير القرآن الكريم .

5- علم قواعد استخراج الأحكام الشرعية من القرآن والسنة.

6- تفسير الأحكام الشرعية المستنبطة من القرآن الكريم خاصة.

وهذا المستوى العظيم من الحفظ والضبط كان سدا عظيما في وجوه أهل الآراء الشاذة المبتدعة أن يغيروا ألفاظ القرآن بحسب مقاصدهم ، فقد اختلف المسلمون في أمور كثيرة ، أما هذا القرآن فلا يزال مكتوبا مقروءا كما أنزل ، قد سخر الله تعالى له هذه العلوم وهؤلاء العلماء فانفرد من بين كل الكتب الأخرى دون استثناء بوجوه من الحفظ المحكم الوثيق التي لم ينلها غيره ، فهل يمكن لبشر أيًا كان أن يقول { وإنا له لحافظون} (الحجر 9).

ومن وجوه الاعجاز الغيبي نتوقف حائرين أمام الكشوف العلمية للقرآن الكريم والتي لم تكن بأي حال من الأحوال معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأحد من العلماء فضلا عن البسطاء، وهذا لا يمكن أن يفسر إلا بأن هذا الكتاب أنزله علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يمكن أن يأتي به الخلق ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ..

وفي هذا الموجز أحب أن أذكر بالجانب الطبي في القرآن الكريم ، والمعلومات الطبية ما بين زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزماننا ـ بعد أربعة عشر قرنا ـ قد تغيرت تغيرا كثيرا حتى كأنها انقلبت رأسا على عقب ، ومع ذلك تظل المعلومات الطبية والوصايا المتعلقة بها في القرآن الكريم موضع تقدير المنصفين من أهل العلوم الطبية غير المسلمين، وموضع إعجاب شديد لهم وبابا من أبواب الهداية للباحثين عن الحق والهدى من طريق البراهين العلمية .

ويكفي لإثبات الإعجاز الطبي في القرآن الكريم ألا يكون في أوامره ونواهيه المتعلقة بالطب مخالفة لشيء من المعلومات الطبية المحققة ، لأن علوم الطب تطورت منذ عصر نزول القرآن تطورًا كبيراً قلب كثيرًا من المعلومات ـ إن لم نقل أكثرها ـ وكانت مكة أقل بلدان العالم معرفة بالطب ، فهذا المقدار وحده معجزة لا تقاوم ولا تنكر .أما إذا جاء تطور العلم الطبي ليؤكد تلك المعلومات القرآنية الطبية، وليكشف عن مجالات أكبر لفوائد الأوامر وأضرار النواهي كان ذلك مستوى من الإعجاز أرقى مما سبق.

وفي الختام نذكر أن الوقاية الطبية في القرآن الكريم منهج وليست قطوفًا متناثرة وأنه كلما تقدم العلم كثرت مؤيداته واندفعت عنه الشبهات التي يلقيها المبطلون تحقيقًا لقوله تعالى: }ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) { النساء 82).

 _____________________________________________

* باحث أول بدار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث. موقع عالم القرآن الكريم www . hqw 7 . com: تيسير البيان عن إعجاز القرآن.

(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ : مصطفى الزرقا 307 / 1 ، ط دار القلم .

(2) المرجع السابق .

(3) المدخل الفقهي العام 23 / 1 ـ . 24