صور من دلائل الهداية الربانية للكائنات الحية

أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى

ا.د. ناصر أحمد سنه*

مقدمة:

في كتاب الله تعالى المقروء، والمتعبد بتلاوته، ورد سؤال فرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}(طه:49) فجاء رد نبي الله “موسى” عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(طه:50). والمتأمل في الكون- “كتاب الله تعالى المنظور”- يجد كماً هائلاً من المشاهد تدل ـ ليس فقط ـ على نعمة الإيجاد من عدم (الخلق) لما يزيد عن (مليون) نوع من الكائنات الحية، متنوعة الصفات والخصائص والوظائف والتراكيب والأشكال والألوان الخ. بل أيضاً على (هداية) الله تعالى لها كي تؤدي دورها ووظيفتها في الحياة على الوجه الأنسب والأفضل دوماً. إنك ـ بتأملك هذا ـ لابد واجداً لكل أمر غاية، ولكل شيء أجلاً، ولكل حادث موعداً، ولكل قدر حكمة: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر:49). لقد أفاض كثيرون، وتعددت وتنوعت الدراسات في هذا الشأن، والسطور التالية إنما هي غيض من فيض تلك الصور الدالة على بديع الهداية الربانية للكائنات الحية.

{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:50).

(هَـدَى) فلاناً: هُدىً، وهدياً، وهدايةً: أرشده ودلّه، و(هَـدَى) فلاناً الطريق، وله، وإليه: عرّفه وبيـَّنه له، و(اهتدى): استرشد، (استـَهدَى) فلان: طلب الهُدًى، و(الهُدَى): الرشاد، و(الهادي): من أسماء الله الحسنى، و(الهادي):الدليل(1). ولقد وردت مادة(هَدَى) ومشتقاتها في القرآن الكريم نحو ثلاثمائة وسبعة عشر (317) مرة(2).

صور من عالم الأسماك

– تظل هجرة الأسماك، ثاني كبار المهاجرين بعد الطيور، وهداية الله تعالى لها حين عودتها أو عودة صغارها فيما بعد إلى مواطنها الأصلية مثار دهشة بالغة من المختصين من العلماء. فأسماك الأنقليس أو الحنكليس (رتبة Myxinoided) تقطع بين شهري يناير ومارس من كل عام آلاف الأميال ـ مهاجرة من مختلف الأنهار والبحيرات العذبة عبر العالم ـ إلى أعماق المحيط الأطلسي (350-450 متراً) لتضع بيضها وتموت. بيد أن صغارها التي لا تعرف شيئأ عن موطن أمهاتها، تعود أدراجها إليها قاطعة نحو 5000 كم في رحلة طويلة وعجيبة ورائعة ولم يحدث قط أن ضلت الأنواع الأوربية إلى المياه الأمريكية أو العكس (3)، فمن غير الله تعالى قد “هداها” سبلها؟.

  صورة لسمك الحنكليس

– وهناك الهجرة الشهيرة ـ من البحار في المياه العذبةـ لأسماك السلمون البالغة لوضع البيوض (رتبة Salmoni formes)، والتي تطالعنا بها الصور التلفازية بقفزاتها ـ تصل إلى 3-4 متر ـ بالغة الرشاقة والروعة والمرونة. تراها باذلة الجهد الكبير ضد مساقط المياه العاتية، وضد مشاكل سوء التغذية لا يصدها صاد عن غايتها واستمرار نسلها. ذلك النسل من السلمون الصغير الذي يعود ببطء، وفي اتجاه تيار الماء، نزولا إلى البحر في رحلة قد تستمر أربع سنوات. لكنه بعد بلوغه يعود ثانية لنبع النهر العذب الذي فقس فيه سابقاً ليعيد دورة حياة جديدة. فمن غير الله تعالى قد “ألهمها” ذلك؟.

– وسمكة “أبو شوكة” (طولها 5-6 سم)، لها تصرفات “غريبة”، فهي من بين قليل من الأسماك التي تصنع “عشاً” لها. فللذكر براعة فائقة في بناء عش جحر من الرمل والحشائش والنباتات في المياه الضحلة للبيض الذي تضعه الأنثى (300 بيضة). كما “لاصطياد” الضحية بطريقة “مبتكرة” “هدى الله تعالى بعض الأسماك لتكوين “أعضاء ضوئية” تتألق في الظلام وتبرز منها “أشعة ضوئية” تظهر فوق خطمها، فيجتذب الأسماك الصغيرة نحو فكين فاغرين مستعدين لالتهامها.

صور من عالم البرمائيات والزواحف

– الضفدع “الحداد”، بل “صانع الفخار” في (أمريكا الجنوبية)، يصنع إناء من الطين على مدى 2-3 ليالي، لينادي بعدها على أنثاه لتضع البيض ـ في آمان ـ داخله.

– ومن الساحل البرازيلي تهاجر سلاحف البحر الخضراء البرازيلية (Chelonia mydas) للتكاثر قاطعة مسافة 2500 كم عابرة المحيط الأطلسي نحو السواحل الإفريقية، وعند جزيرة Ascension تضع بيضها ومن ثم تعود إلى موطنها دون أن تضل طريقها. ويحار العلماء في تفسير تلك الرحلة العجيبة، فهل تترك السلحفاة رائحة معينة تهتدي بها حال عودتها، أم تسترشد بالتضاريس البحرية، أم بزاوية معينة للشمس بالنسبة للأرض، أم ببوصلة مغناطيسية؟، أم هو “طريق آمن”؟(4). من غير الله تعالى هداها سبلها؟.

  صور للسلحفاة البرازيلية الخضراء

– وللحرباء مهارة فائقة في التنكر والتخفي وتغيير لونها (لتصبح بلون صخرة أو جذع شجرة الخ)، ورزقها الله تعالى عينين تتحركان مستقلتين عن بعضهما البعض.

صور من عالم الحشرات

– الحشرات من أكثر الأحياء انتشارًا على سطح الأرض فقد ألهمها الله تعالى مقدرة على البقاء والتأقلم والتكوين البنيوي والتكاثر ومنازلة الخصوم الخ. ينخر “الزنبور” بإبرته السامة في المركز العصبي “للجندب النطاط” بحيث “يخدره”، ويُفقده وعيه، فلا يستطيع الفرار، كما لا يسبب هلاكه، فيبقي لحما محفوظا تبيض عليه الأنثى، ومن ثم تغطي الحفرة وتموت. بعد أن تكون قد وفرت الغذاء لصغارها قبل أن يولدوا، وهكذا الحال مع كل الزنابير منذ أن خلقهم الله تعالى (5)، فأعظم به من خالق سبحانه وتعالى.

– تماماً في 24 مايو من بلوغه السنة السابعة عشر من عمره، ترى ذلك الجراد البالغ ـ في ولاية “نيو انجلاند”ـ عادة ما يغادر شقوقه المظلمة تحت الأرض، فيظهر بالملايين في ذلك التوقيت (6).

– حشرة” أبي دقيق” عادة لا تتغذى على أوراق الكرنب، بل تختاره ـ دون غيره ـ لتضع عليه بيضها، ومن ثم تخرج الديدان الصغيرة وتأكل من تلك الأوراق المناسبة لها(7)، فمن أودع في تلك الحشرة “مهارة” حسن اختيار الغذاء المناسب لديدانها؟.

– من الذي “هدى” البعوضة لقوانين “ارشميدس” في الطفو، فنجدها تزود كل بيضة من بيوضها بكيسين من الهواء كي تطفو بهما على سطح الماء؟ (8).

– للنحل والنمل في بناء بيوته المعقدة الإنشاء، البالغة الدقة، ذات الغرف والدهاليز والمخازن والبدرومات، “هداية ربانية” لقوانين الهندسة المعمارية. فضلا عن نظام العمل الاجتماعي التعاوني المدهش في تلك الخلايا.

فلسبعة أمتار قد يصل ارتفاع عش النمل الأبيض، ونحو 30 ألف بيضة في اليوم من “الملكة”، وما سيتتبعه من بناء غرف جديدة لتسع هؤلاء القادمين الجدد من النمل، فأي هداية وأي جهد وعمل دؤؤب مبذول؟. وهذه حشرة “الترميت” الإفريقية تبني بيوتا كالقباب والتلال والمسلات وتزودها بقنوات وفتحات خاصة كي يرتفع الهواء الساخن لأعلى ليحل بدلا منه الهواء البارد من أسفل. إنه بيت رائع من حيث تكييف الهواء Air conditioning (9).

 

 صورة للخلايا التي يصنعها النحل وتظهر الهندسة السداسية العجيبة فتبارك الله أحسن الخالقين

– العناكب ليست حشرات لكونها تمتلك ثمانية أرجل، وللحشرات ستة فقط، وجسم العناكب مكون من قسمين وليس ثلاثة، لكن لا يغيب عن البال النسق البارع “لشبكة’” خيوط بيت العنكبوت “أقوى من الفولاذ، ولزجة تلتصق بها الفرائس من الحشرات”. تلك الخيوط تخرج من عضو “المغزال” في مؤخرة الجسم. بيد أن بيت العنكبوت كبيت من أتخذ من دون الله أولياء “واهن واهن”: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:41).

– “لا يورث غذاء، بل سلاحا”، فجراد الصحراء الذي يعيش في سورية والشرق الأدنى يتغذى على نبات Calotrpus procers الذي تحتوي أوراقه على مادتين سامتين يريدهما الجراد (دون سائر سميات النبات) للدفاع عن نفسه ضد أعدائه. وهو يترك منهما مخزونًا بجانب بيضه حتى تفقس حشراته الصغيرة

 

  صورة لخرسنة القطب الشمالي ويظهر في الصورة السفلية مسار الهجرة السنوية من الشمال إلى الجنوب

فتجد ” أسلحة” التي تدافع بهما عن نفسها (10).

صور من عالم الطيور

– يوجد ما يزيد عن (8000) نوع من الطيور، فهل تعلم أفراخها الطيران أم إن هذه الخاصية “هداية” من الله تعالى؟. أجرى باحثون ألمان تجربة للإجابة عن مثل هذا السؤال، حيث وضعوا صغار الحمام حديث الفقس في أنابيب ضيقة بحيث لا تستطيع تحريك أجنحتها، وعند بلوغها سنًا معينة قاموا بإطلاقها فطارت على الفور(11). بيد أن سباع الطير ومن يصطاد في الهواء، تساعد صغارها “وتدربهم” ـ عبر إلقاء قطع الطعام في الهواء ـ كي تكتسب مهارة إتقان فن القنص في الهواء.

– عبر فصول العام.. مازالت هجرة الطيور، أكبر المهاجرين في الكائنات الحية، إلى حيث الدفء والغذاء، ووضع الأعشاش، وهداية الله تعالى لها حين عودتها أو عودة صغارها بمفردها فيما بعد إلى موطنها الأصلي، مثار اهتمام ودهشة بالغين من العلماء والمختصين (12). فعلى سبيل المثال خرسَنة القطب الشمالي Sterna paradisaea تتكاثر في أقصى شمال أوربا وأمريكا وتهاجر في الخريف جنوبا إلى استراليا وأفريقيا، حيث تبقى حتى فبرايرـ أبريل، ومن ثم تعود إلى أرض تكاثرها في الشمال، في رحلة فريدة عجيبة لا تصدق، وتبلغ نحو 35 ألف كلم في السنة الواحدة.

فيما يلي جدول يوضح بعض أنواع الطيور المهاجرة، وأطوال أجسامها (سم)، والمسافات التقريبية التي تقطعها في هجرتها (13):

 

تعددت تفاسير العلماء “لحواس التوجه”، ومدى الدقة في تحديد الاتجاه وأماكن الهجرة، ومن ثم العودة للموطن الأصلي، وصولا للقول بوجود مادة تعمل “كمغناطيس طبيعي” يتوافق مع المجال المغناطيسي للأرض.. ذهاباً وإيابًا. إنها ـ من قبل ومن بعد ـ هداية الله لمخلوقاته.

– كانت قد أجريت تجربة للتفريخ الاصطناعي لبيض الدجاج، عبر إحاطته من جميع جوانبه بالحرارة المناسبة ولكن دون تقليب، كما هدى الله تعالى الدجاجة لذلك. لكن مضى موعد الفقس دون خروج الفراريج، وفشلت التجربة. ليعلم فيما بعد أن الدجاجة إنما تقلب بيضها منعاً من ترسب المكونات الأولية للفرخ في الأجزاء السفلية منه، ولذا فهي لا تقوم بتقليب البيض في اليوم الأول وكذا الأخير من فترة الحضانة، فمن هداها لذلك؟.

– وإذا تركنا الدجاجة وهدايتها في تقليب البيض، فمن الذي هدى الفروج ـ عند موعد فقسه ـ كي يكسر بيضته عند أضعف أجزائها، ومن الذي هدى “العقاب المصري” كي يلتقط الحصى بمنقاره، ومن ثم يرتفع عاليا كي يسقطهاـ بذكاء، وبخاصية من حدة بصر فائقةـ على بيض النعام العصي على الكسر(14).

 صورة لحيوان الوطواط

صور من عالم الثدييات

– ضمن مجموعة تصل إلى حوالي (2000) نوع من الوطاويط، الحيوانات الثديية الوحيدة التي تطير، وهي تنشط ليلا وتنام نهاراً، يوجد لدى الخفافيش آكلة الحشرات

(Microchiropter) آذان كبيرة نسبياً، وعيون صغيرة جداً، وطيات جلدية معقدة، وناميات على أنوفها، يرى المختصون أنها أساسية لاهتدائها للطيران والتغذية في ظلمة الكهوف العاتية، وذلك عبر رجع الصدى للموجات فوق الصوتية (السونار). ولقد هداها الله تعالى لتحدد ـ كذلك بسمعهاـ ما إذا كانت هناك من حشرات تقف فوق الأغصان وأسلاك البرق لتصطادها، متفادية العوائق في ذلك الظلام الدامس (17). كما يتميز “الدلفين” أيضا بحدة سمعه فهو يستطيع أن يعين موضع فريسته بواسطة ترديد الصوت الذي “هداه” الله تعالى لاستعماله.

– “القندس”.. “مهندس المملكة الحيوانية” فهو بنّاء عجيب مدهش، هداه الله تعالي لإنشاء السدود والحفر والمساكن. يصل ارتفاع السدود إلى أربعة أمتار ويزيد طولها عن 600 متر، وتشكل المياه خلفه بركة كبيرة.

 

 clip_image301

clip_image302 صورة لقندس يقوم بحمل غصن شجرة لبناء سده، وفي الأسفل سد صناعي أنشأه حيوان القندس الذي هو أقدم بناء للسدود عبر التاريخ

-ترحل الحيتان لمسافات طويلة وهداها الله تعالى لسماع الأصوات تحت سطح الماء لمسافة 3 أميال، فيتعرف أفراد السرب على بعضه البعض، وعلى الظروف المحيطة (18).

– فصيلة القطط والكلاب لها من “هداية” الله تعالى نصيب وافر، ففي “حواسها” المختلفة في التعرف على البيئة المحيطة، واستكشافها، ومعرفة مخارجها وأماكن الهروب منها، وبخاصة عندما تدخلها للمرة الأولى. فهي “مُعلِم ماهرٌ” في فنون الصيد والقنص فلديها براعة فائقة في مهاراتها، وجسد رشيق، وأطراف مستدقه، وعضلات قوية..لتجعل من “الفهد الصياد” Acinonyx jubatus أسرع مخلوقات الأرض (نحو 120 كم/ ساعة) دون منازع.

– وللكلاب “هداية”، تنعكس في تعدد خدماتها ووفائها للإنسان: حراسة الماشية والمنازل والحدود والأفراد، وإنقاذ المفقودين والمسافرين، وقيادة فاقدي البصر، وفى إغلاق مصابيح الإنارة والغسالات والأبواب وخدمة توصيل بعض الأغراض للمقعدين وذوي الاحتياجات الخاصة، ووسيلة للجر والنقل، ووسيلة للاتصال أيام الحروب والأزمات، ومهمة استكشاف المخدرات والمواد المحظورة، واستكشاف المناجم كأبرع جيولوجي، وفوائد جليلة للبحث العلمي والطبي والجراحي والدوائي كحيوانات للتجارب (وإن كان ذلك يلقى معارضة كبيرة من جمعيات الرفق بالحيوان).

وأضف إلى ذلك احدث وظيفة تم تدريب الكلاب عليها وهي عملها “كجرس إنذار” يتنبأ بقدوم نوبات الصرع Epilepsy من خلال نبرات وتعبيرات وجوه مخدوميها، ومن ثم تقفز وتنبح وترقد عند أقدامهم مما يعمل على إيقاظهم وتنبيههم، كما أن بعضها قد تضرب عن الطعام إذا ما مرض صاحبها، وقد تضحي بحياتها في سبيل إنقاذه من أزماته، فمن الذي “هداها” لتفعل كل هذه الخدمات للإنسان؟.

– القطط الأليفة ـ تلك الحيوانات ذات “الشخصية المستقلة” والتي نادرا ما يسودها “النظام الأبوي” أو “نظام القطيع”، غالباً ما تعيش منفردة، مستقلة، هانئة بتأملاتها الذاتية، محتفظة ببعض صفاتها البرية، لا تبدي مشاعرها كثيرًا‍‍‍‍‍‍‍، فهي تمثل نموذجًا يحتذي في النظافة العامة وفى التجمل، فهي تقضى ساعات طوال في تنظيف نفسها، والعناية بشعرها. فمن الذي هداها لمعرفة فلسفة الجمال والقبح؟؟ (19) فنراها لا تترك فضلاتها إلا وقد أهالت عليها التراب، ودفنتها سواء كان ذلك في الطريق أو داخل البيوت حيث موضعها وأطباقها المُعدة لذلك الغرض.

-“الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” (صحيح البخاري، برقم:2637)، هكذا يُخبر رسولنا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الخيل، لما لها وظائف متعددة يكللها “هداية” الله تعالى لها في “ذكائها”، وفي “بنيانها” الجسدي. :{والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تـُريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق النفس إن ربكم لرءوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوا وزينة ويخلق ما لا تعلمون} (النحل:5ـ8). وجدير بالذكر أن للخيل شأناً رفيعاً في التراث العربي والإسلامي، يذكر الجاحظ:” لم تكن أمة قط أشد عجباً بالخيل، ولا أعلم بها من العرب”. وللفروسية أثر كبير في التحلي بالشجاعة والمرؤة والأخلاق الحميدة.

– وللإبل ـ أيضاً ًـ مكانتها في التراث العربي الإسلامي، وتكفي إشارة القرآن الكريم للنظر وتأمل خلقة الله تعالي لها: {أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت}(الغاشية:17) وفي هذا الشأن سودت كثير من الدراسات والمقالات. بيد أنه تجدر الإشارة هنا إلى “هداية” الله تعالى لها في أنواعها وسلوكياتها، واقتصادياتها، وكيفية تأقلمها مع بيئتها وظروف معيشتها، وذاكرتها القوية التي تعرف خط السير حتى ولو مضت فيه منذ سنين، فضلاً عن مقاومتها للأمراض، وخصائص ونوعية لحومها، وكمية ومكونات وفوائد ألبانها وأبوالها. كما إن بإمكان المرء أن يتعلم الكثير من “صفاتها وطباعها” مثل: التحمل والصبر والعمل الدءوب والقناعة والاقتصاد في المأكل والمؤونة، والادخار لما هو قادم، والعطاء حتى في اقسى الظروف.

– مجموعة الحيوانات الرئيسة (الجيبون، والأورانغ أوتان، والغوريلا، والشمبانزي الخ)، وهبها الله تعالى مقدرة “عقلية”، ومستويات مرتفعة من “الذكاء”، و”الذاكرة الجيدة”، واستعداد كبير “للتعلم والدربة”، ومقدرة رائعة على “التقليد والمحاكاة”.

– لعل المجال هنا لا يتسع لعرض الصور العديدة والمتنوعة لهداية الله تعالى للإنسان،..مادياً ومعنوياً، جسداً وروحاً، وكيف لا وهو “خليفة” الله تعالى في أرضه، والمكرم على كثير من مخلوقاته ـ جلت قدرته ـ :{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(الإسراء:70). لكن تكفي الإشارة السريعة إلى قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء:78)، وقوله تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10)، وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}(الكهف:24). ثم تكرار الدعاء في الصلاة:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6).

يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالي:”لقد وهب الله تعالى الوجود لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها ثم هدى كلاً إلى وظيفته التي خلقه لها، وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها، فكل مخلوق معه الاهتداء الطبيعي الفطري لوظيفته، فالخلق والاهتداء للوظيفة متزامنتان، بيد أن هداية كل شيء لوظيفته مرتبة أعلى من خلقه..إنها أكمل آثار وهبات الألوهية الخالقة المدبرة للوجود.. هبة الخلق على تلك الصور البديعة، وهبة الهداية لوظيفة المخلوق، كبيراً أو صغيراً، من أضخم الأجسام إلى أصغرها، ومن أرقى أشكال الحياة في الإنسان إلى الخلية الواحدة”(20).

وأخيرا وليس آخرا: الغشاء الخلوي.. غشاء “عاقل”

الحيوانات الأوالي: وحيدات الخلية والتي يعدد منها ما ينوف على ثلاثين ألف (30000) نوع..غشائها الخلوي (كما في خلايا أكبر الكائنات حجماً) به “هداية” لوظائفه الحيوية..حركة وتغذية وانقساماً، ويبدو كما لو كان غشاء “عاقلا”(21). يقول د. زغلول النجار:”لا ريب أن السنن الحاكمة للكون، ولجميع ما فيه ومَن فيه، هي من أمر الله ـ تعالى ـ وضمن هدايته، تأكيداً على حقيقة الخلق، وعلى ربوبية الخالق. فالله ـ جلت حكمته ـ هو رب كل شئ ومليكه وهاديه”(22).

خلاصة القول

إنهما صفتي “الخلق والهداية”. فالكائنات الحية من الأكثر رقياً ـ في الأسماك والبرمائيات والزواحف والحشرات والطيور والثدييات ـ إلى الحيوانات وحيدة الخلية نجدها مدفوعة لأن تفعل الشيء الصواب في الوقت والمكان الصواب، وبالطريقة والنسق الصواب في دلالة واضحة ـ ليس كما يذهب البعض بدافع من سنن وقوانين وغريزة طبيعية ـ بل بهداية ربانية: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(طه:50). فهل يقتدي الإنسان ويهتدي إلى الهدى؟

ـــــــــــــــــــــــ

* كاتب وأكاديمي في جامعة القاهرة. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.55a.net

الهوامش والمراجع

1-أنظر: المعجم الوجيز،الصادر عن مجمع اللغة العربية، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم، 2005م، مادة”هدي، ص: 647.

2-راجع: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضعه: “محمد فؤاد عبد الباقي”، دارالحديث،القاهرة،ط 3، 1991م.

3-سعيد حوي::” الله جل جلاله”، مكتبة وهبة، ص:54، وأنظر ايضاً د. صبري القباني:”غرائب في مملكة الحيوان”، د.ت، ص 141-147.

4-د. صبري القباني، مرجع سابق، ص:180-181.

5-د. مصطفي محمود: “رأيت الله”، دار المعارف، ط 3، 1977م، ص:8، وكذلك سعيد حوي، مرجع سابق، ص:54.

6- سعيد حوي، مرجع سابق، ص:54.

7-د. مصطفي محمود: “لغز الحياة”، دار النهضة العربية،، 1973م، ص:43.

8-المرجع السابق، ص:44.

9-موسوعة كومبي العربية المصورة، دار العالم العربي للطباعة، القاهرة، وكذلك: The Encyclopedia Americana, Vol. 30: pp: 770

10-د. صبري القباني، مرجع سابق، ص: 222-223.

11-المرجع السابق: ص: 297

12- Yuri Dmitriyev:” Animal on a pedestal”, Raduga publishers, (1989), pp :161-196.

وأنظر أيضا: “لغز الحياة”، و”غرائب في مملكة الحيوان”، مراجع سابقة.

13- أسرار جسم الإنسان: ترجمة هاشم أحمد محمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1999م.

14- لغز الحياة، مرجع سابق :ص:7، وغرائب في مملكة الحيوان، مرجع سابق ص:301.

15– الموسوعة العلمية للناشئة، العدد:8، منشورات دار الجنوب للطباعة، بيروت، ترجمة اسماعيل اليوسف عن الموسوعة الإنجليزية: Children’s Encyclopedia

16-أيجور اكيموشكين: “بناؤؤون عجيبون”، دار ماليش ومكتبة دار الشرق، موسكو، 1978م، ص: 4-10.

17- الموسوعة العلمية للناشئة، مرجع سابق العدد:7.

18- أسرار جسم الإنسان، مرجع سابق، ص:63-71.

19-“رأيت الله” مرجع سابق، ص:6-7، وأنظر :” Animal on a pedestal”مرجع سابق،ص: 294-313.

20-بتصرف من سيد قطب: “في ظلال القرآن”، مجلد، 4، ط 17، 1992م، دار الشروق، مصر، ص 2338.

21-مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، العدد: 455، رجب 1424هـ، ص: 61-63، وانظر: سعيد حوي، مرجع سابق، ص:44-46.

22- بتصرف من د. زغلول النجار: “في نور القرآن الكريم..تأملات في كتاب الله”، الدار المصرية اللبنانية،القاهرة، طبعة 1، 2008م، ص:182.