إعجاز القرآن الكريم لأهل الأدب الجاهلي

أ‌. باسم وحيد الدين علي

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى خاتمهم النبي المصطفى، صلى الله عليه وسلم، سيدِ أهل الصفا، والحب والوفا. وبعد

لا بد لمن أراد أن يبحث في الإعجاز البياني في القرآن، أن يكون له بالبيان باع، وباللغة علم واطلاع، ولا سبيل لتقدير أثمان الجواهر إلا لمن استطاع معها صبرا، وصرف في تقليبها عمراً ونقّلها بين يديه دهرا. يقول الله تعالى في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195}.

ومما يؤسف له أن بعض المدعين بمعرفة اللغة العربية، يرون في آي القرآن كلاماً كسائر الكلام، وصياغة كسائر الصيغ، مما يدل على قِصَر نظر، وإدعاء وكِبْر، ولو أنهم درسوا الأدب الجاهلي فحسب، لوجدوا أن أهله وصنّاعه، قد وقفوا لدى سماع القرآن حائرين، ومن وقعه عليهم مرتعشين، أصابهم الذهول، وسلب منهم العقول، فسجدوا مع الساجدين، وانسلوا من بين المشركين ليسترقوا السمع لكلام رب العالمين.

نورد في هذا السياق روايات ثلاث لإعجاب المشركين بكلام القرآن وإعجازه لهم:

-الرواية الأولى: خرج أبو جهل وأبو سفيان والأخنس بن شريق ليلة، يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق فتلاوموا، فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية، عادوا إلى استراقّ السمع لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الفجر. ثم جمعتهم الطريق مرة ثانية، وكذلك في الليلة الثالثة. فلما أصبح الأخنس أتى أبا سفيان في بيته فقال: (أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد). قال: (والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها). قال الأخنس: (وأنا والذي حلفت به). ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فقال: (ما رأيك فيما سمعت من محمد؟)، قال: (ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان. قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه).

-والرواية الثانية: عن حكيم قريش عتبة بن ربيعة وكان في الثمانين من عمره ، أرسلته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : (يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من السعة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قل يا أبا الوليد أسمع”، فقال: (يا ابن أخي! إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد شرفا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئي [ أي مس من الجن] تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو لعل هذا الذي يأتي به شعر جاش به صدرك، وإنكم لعمري يا بني عبد المطلب تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد!). حتى إذا سكت عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أفرغت يا أبا الوليد؟”، قال: (نعم) ، قال: “فاسمع مني”، قال: (أفعل)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم {1} تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {3} بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ {4} وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ {5} قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ {6} الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {7} …إلى أن قرأ:… ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {11} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {12} فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ {13}.

أنصت عتبة، وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم للسجدة فسجد فيها. ثم قال: ” قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك!”، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: (نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!)، فلما جلس إليهم قالوا: (ما وراءك يا أبا الوليد؟)، فقال: (والله لقد تعلمون أني من أكثر قريش مالا، ولكني لما قصصت عليه القصة أجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر)؛ ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله: “مثل صاعقة عاد وثمود”، ثم قال: (وأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فوالله لقد خفت أن ينزل بكم العذاب؛ [يعني الصاعقة]. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها فيَّ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ! فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به)، قالوا: (سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه!)، فقال: (هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم).

-الرواية الثالثة:-قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من سورة غافر: ” بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم {1} تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {2} غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {3}. فسمعه الوليد بن المغيرة يقرؤها، فقال لقومه : (والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر).

وعندما ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم بآية السجدة، سجد النبي والمسلمون ولم يتمالك المشركون أنفسهم فسجدوا معهم، من شدة تأثرهم بكلام الله عز وجلّ.

ولا يستخفن أحد بأهل الأدب في الجاهلية فقصائد المعلقات السبع يشهدن على مستوى البلاغة والفصاحة في الجاهلية، وكمثال على رفاهة حسهم وبلاغة شعرهم، ومن ذلك ما ذكره الرافعي من استدراك الخنساء على حسان بن ثابت في شعر أنشده بعكاظ، قال فيه:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى … وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بنى العنقاء وابن محرق … فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما

فقالت الخنساء: (ضعف افتخارك، وأبرزته في ثمانية مواضع)، قال: (وكيف؟)، قالت: (قلت”لنا الجفنات” والجفنات مادون العشر، فقلّلت العدد، ولو قلت ” الجفان” لكان أكثر، وقلت: “الغر” والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت:”البيض” لكان أكثر اتساعا، وقلت :”يلمعن” واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت “يشرقن” لكان أكثر، لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: “بالضحى” ولو قلت: “بالعشية” لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقا، وقلت: “أسيافنا”، والأسياف دون العشر، ولو قلت: “سيوفنا” كان أكثر، وقلت :”يقطرن” فدللت على قلة القتل، ولو قلت:”يجرين” لكان أكثر، لانصباب الدم، وقلت “دما” والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفتخر بمن ولدوك).

ولم يحدث مثل ذلك أو أقل منه في آية أو حتى كلمة من القرآن رغم كثرة دواعي القوم للطعن والمعارضة.

ويتساءل أعلام اللغة العربية دوماً ، عن هذا السر المتجدد في القرآن، أين يكمن الإعجاز واللغة لغة، وهي في متناول الجميع؟ ولماذا صمت أدباء العصر الجاهلي إزاء هذا الكلام الغض، وقد فسحت لهم الساحات والمنابر ودفعت لهم الأموال وخصصت لهم الأعطيات، يقول الإمام الجرجاني في “الدلائل”:

(ما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية، وباهر الفضل، والعجيب من الوصف، حتى أعجز الخلق قاطبة ، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القُوَى والقُدَر، وقيد الخواطر والفِكَر، وحتى، خرست الشقاشق وعدِم نطق الناطق، وحتى لم يجر لسان، ولم يُبن بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زند، ولم يمض له حد، وحتى أسال الوادي عليهم عجزاً، وأخذ منافذ القول عليهم أخذاً؟ …).

ونستشهد بقول الجاحظ في ذكره لإعجاز القرآن، قال: (ولو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة. لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها).

ولهذا ظهرت حماقة مسيلمة الكذاب حين أراد أن يحاكي القرآن باللفظ وعجز عن المعنى الذي لم يستقم له فقال: (إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، وقوله والطاحنات طحناً، وقوله: الفيل ما الفيل وما ادراك ما الفيل له ذنب قصير وخرطوم طويل.. ).

ولهذا تحدى المولى تعالى أن يأتي أحدهم بسورة تشابه القرآن فقال في سورة يونس.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {38}.

فإذا كان القرآن الكريم قد أعجز أهل الأدب في الجاهلية، وخضع له الأدباء اللاحقون، فكيف يسمح الجاهلون باللغة لأنفسهم بأن يتطاولوا على كلامٍ فوق مستوى فهمهم وعلمهم، وكيف نسمح لأنفسنا بأن نسمع لهم ونحترم ونردد رأيهم؟ أبالله يستخفون؟ أم بالدين يستهزئون قال تعالى: {إنه لقول فصل وما هو بالهزل}. وفقنا الله وإياكم إذا قريء القرآن أن نسمع، ونعتبر منه فنخشع، ونذعن له ونخضع. فنفهم مغزى قوله تعالى في سورة الحشر:

لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {21}. ففي كل مرة يستمع فيها لاهٍ أو غافل إلى آيات القرآن، فيرتعد ويتعظ إعجاز جديد، لأن هذا الكلام البليغ يلقى صداه عند من فقه اللغة وعرف متانة الأسلوب الإلهي وفرادته. فهنيئاً لمن سمع أو قرأ فوقرت في قلبه خشية الخالق، وارتعدت فرائصه إشفاقاً على نفسه ورغبة في وصل ما انقطع مع مولاه.