إعجاز القرآن في أخبار الأنبياء والرسل

أ.باسم وحيد الدين علي ود.محمد فرشوخ

ينطلق البحث اليوم من جملة واحدة، من حديث شريف، عرّف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض إعجاز القرآن الكريم فقال: ” كِتَابُ الله فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ،… [i]. وقال ” نبأ ” ولم يقل “خبر” ما قبلكم، فالخبر يعرفه عدد من الناس، والنبأ لا ينبيء عنه إلا صاحبُه أو الشاهدُ عليه. ومن ذلك قولُه تعالى:{ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم}. وهذا من جوامع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن أهم الأنباء وأولاها أنباء الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم  أجمعين، وما جرى معهم من أقوامهم،  استعاد الله تعالى ذكر قصص بعضهم وصحح ما شاع من أخبار مغلوطة دسها المغرضون والمتضررون من تطبيق شرع الله، فصحح الخلل بإيراد الحقائق، وروى قصة كل منهم كما جرت وبرر أفعالهم ونزّه تصرفاتهم عن الحقد والهوى والمكر والانتقام.

ففي نبأ سيدنا نوح، عليه السلام، ذكر معاناته مع قومه بالتفصيل وسجل المواجهات التي كانت تدور بين الطرفين، ونوّه بصبر نوح على ضلال قومه وظلمهم له. كما أورد ولأول مرة، قصة ابنه الضال الذي آثر أن يأوي إلى الجبل ليحتمي من الماء، وهي قصة خصّها الله تعالى بنبيه الكريم لم ترد من قبل في كتاب، كما ذكر القرآن العظيم صلاح هذا النبي الكريم بدلاً مما حرّف عنه في التوراة من أنه شرب الخمر وتعرى أمام أبنائه. وقد ذكِر نوح في القرآن وحده أكثر من 32 مرة ومن مواقف المواجهة التي وقفها في وجه قومه قال تعالى عنها في سورة يونس: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ {71} فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {72} فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ {73}.

وفي نبأ إبراهيم، ذكر قصته مع الأصنام، وتحطيمَه لها، ثم مناظرته مع الملك، وصحح المشهد المشوش عن ذبح سيدنا إبراهيم للأربعة من الطير، ثم استدعائهن فعدن إليه أحياء، وحري بالذكر أن مشهد الطير هذا جرى على الأرجح في المزارع المحتلة لبلدة شبعا اللبنانية العزيزة، وفيها مزار يعرف بمشهد الطير. وذكّر القرآن الكريم بصلاح سيدنا لوط وتقواه وإيمان بناته تصحيحاً للصورة السيئة الفاحشة التي ذكرتا بها في التوراة.

  وفي أنباء موسى صحح الأخبار، ودقق التفاصيل، وذكر جديداً كثيراً، مثل مقتل الرجل الذي وكزه موسى قبل النبوة ومشاهد المناظرات مع فرعون، وقصة البقرة التي أمرهم الله تعالى بذبحها، فتساءلوا وتلكأوا. ويخاطب الله تعالى سيدنا محمداً حين يحدثه عن موسى عليهما الصلاة والسلام فيقول جل من قائل في سورة القصص:

وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ {44} وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ {45} وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {46}.

كما صحح قصة سيدنا يوسف عليه السلام وإخوته وأوضح أدق تفاصيلها ووصف مشاعر أبطالها وتفاعل مواقفهم. وعن مكر إخوة يوسف يقول لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ {102} وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ {103}.(سورة يوسف).

وأورد من الأنباء ما لم يرد ذكره عن بقية الأنبياء من قبل. ومن قرأ في غير القرآن لما وجد ذكراً لهذه الأمور، إلا شيئاً قليلاً عرضاً ولماما.

كما صحح المولى تعالى، بعض الروايات المغلوطة عن أنبيائه ورسله، فنزههم عن اللغط الذي دار حول بعضهم وحول بعضٍ من أهليهم وأتباعهم. كالمس بأعراض زوجات الأنبياء، فما زنت امرأة نبي قط، وما كانت خيانة امرأة نوح وامرأة لوط إلا خيانة معنوية إيمانية إذ بقيت كلتاهما على تعلقهما بقومهما الكافرين. وما كان سيدنا سليمان ساحراً وما كان أبوه داود عليهما السلام من قبل مكارا متآمرا. وما كان سبب إبعاد السيدة هاجر وابنها اسماعيل عليهما السلام من فلسطين إلى مكة بسبب حقد السيدة سارة وغيرتها، فتعالى الأنبياء والرسل عن القيام بأفعال متهورة أو من عند أنفسهم، وما كان انتقال السيدة هاجر إلا بأمر من الله وحكمة بالغة، بحيث انطلقت مسيرة أمة العرب والإسلام منذ ذلك اليوم لتنشأ الأمة البديلة عن بني اسرائيل، فتحمل راية الإيمان وتنشر العدل والأمن والسلام في الأرض. بعد أن رفض بنو إسرائيل هذا التكليف وهذا التشريف من الله تعالى.

ويتبين أن ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم عن سيدنا إبراهيم، كان أوسع بكثير مما ورد في أي كتاب سبق، وما ذلك إلا لإعطاء البراهين على قوله تعالى:{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} {68}.(سورة آل عمران).

  ويُعجِز القرآن الناس كافة، حين  يتحداهم، أن يخبر أحدهم بما جرى لأحد الأنبياء والرسل في مواقف مفصلية ودقيقة وهامة فيسأل الله تعالى الناس في سورة البقرة قائلاً: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {133}.

ونرى أن الكتاب الكريم جاء ليصحح القصص التي شاعت من قبل عن الأنبياء والرسل، فنزههم عن الزنا والآثام وأظهر ترفعهم عن المكر والخداع والرذيلة، ليظهر بعد ذلك رفعة أخلاقهم وسمو رسالاتهم ووحدة أهدافهم.

فالهدف الأسمى والنهائي من قصص الأنبياء والرسل المدققة في القرآن هو الإثبات للناس أن الدين واحد والرب واحد، وأن العقائد والعبادات التي فرضها الإسلام ليست مستجدة، بل كانت على جميع الأمم كتاباً مفروضا، فأثبت أن جميع الأنبياء والرسل جاؤوا بالتوحيد، وذكر على لسان سيدنا عيسى عليه السلام أن الصلاة والزكاة كانتا وستبقيان فريضتين متلازمتين من الله تعالى على كل الأمم فقال في سورة مريم : وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا {31}. وكذلك كان لأمره تعالى لإبراهيم ولوطٍ وإسحق ويعقوب من قبل فقال فيهم: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ {73} (سورة الأنبياء).

وقال عن فريضة الصيام في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}.

وعن فريضة الحج ذكر القرآن الكريم أنها استؤنفت في عهد إبراهيم عليه السلام، بعد أن رمم البيت الحرام وأذّن في الناس بالحج. فاستمر الناس بهذه العبادة على الرغم من ضلالهم إلى أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصحح لهم مناسكها. ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {199}.

إنها أنباء الوعظ والاعتبار، يقول الله تعالى عنها في سورة التوبة: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {70}.

جعلنا الله ممن يستمع فيتعظ ويعتبر، ونشكره تعالى على هذه المعارف العلية، ونسبحه على عظيم قدرته، ووافر عطيته، ونسأله التوفيق وحسن الختام.



[i]   تحفة الأحوذي للمباركفوري، عن علي رضي الله عنه، حديث رقم 2982.