إعجاز القرآن في الإخبار عن الأمم السالفة

أ‌. باسم وحيد الدين علي

بسم الله الرحمن الرحيم

طوى الزمن الغابر أحداثاً جساماً، وسيرة رجالٍ، وأخبار أقوام، وبعد مرور آلاف السنين استعاد القرآن هذه الأخبار بعد اندثار، وكأنها تسمع كالأنباء لأول مرة. فحدّث عن أخبار الأمم السالفة المعروفة، وصحح المعلومات المغلوطة المتناقلة عن بعضها، وكشف عن بعضها الآخر غوامضها والأسرار. كما حدث عن أمم اندثرت حضارتُها، ولفّ النسيان أخبارَها، فأحيا الله تعالى ذكرَها والعبرَ مما حصل معها ولها.

وفي كل الحالات، ذكر الله تعالى أنه ليس بمقدور نبينا صلى الله عليه وسلم أن يأتيَ بمثل هذه المعلومات والتفاصيل، لا هو ولا أيّ كائنٍ من عصره أو أتى بعده، فقد طوت الأرض الأقدمين وصارت مساكنهم أثراً بعد عين، ولم يبق من أخبارهم إلا الأساطير. ولن يتأتى علمهم بعد ذلك إلا من عند ربنا وحده، سبحانه وتعالى، فقال مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم في سورة هود: {تلك أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين} {49}(سورة هود).

ومما مضى من أنباء ما هو متعلق بأخبار الأولياء والصالحين وحتى الضالين والكافرين والمنافقين. ومن هذه الأنباء قصة الذي مر على قريةٍ خَرِبة، خاويةٍ من الناس، قد يبست أشجارها، فأخطأ حين تفوه بكلام يُفهم منه أن الله تعالى لا يمكنه أن يعيدها إلى سابق عزها فأماته الله مئة عام ثم أحياه وقال عنه في سورة البقرة : أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {259} (سورة البقرة).

ومن هذه القصص خبر فتية أهل الكهف وموسى والخضر عليهما السلام وكذلك خبر ذي القرنين. وذو القرنين قائد عابد صالح، لا علاقة له بالإسكندر ذي القرنين الإغريقي لا من قريب ولا من بعيد، فقد أخبرنا الله تعالى أنه مكن لذي القرنين في الأرض، وأنه كان مؤمناً، بدليل قوله في سورة الكهف، بعد أن أنجز السد في وجه يأجوج ومأجوج: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا {98} (سورة الكهف).

بينما كان الاسكندر شاباً مغامراً، يعاقر الخمر ويعاشر النساء وحتى الرجال، كما روى عنه قادة جيشه، ومما لا يعرفه الكثير من الناس، أنه كان قبيل موته يعِد لاجتياح الجزيرة العربية، إلا أن الله تعالى قبضه، قبل أن يحقق مأربه، وهو في عز الشباب.

ومن جميل أنباء القرآن عما مضى من الزمان، تلك التي تتحدث عن السيدة مريم العذراء عليها السلام، والتي تفرّد بها القرآن الكريم، فذكر صلاحَ والديها، وحملَ أمها بها، ومولدَها ونشأتَها الصالحةَ التقية، بعد أن نذرتها والدتُها لخدمة دين الله، وحدّث القرآن كذلك، عن بركتها وعناية الله تعالى بها، حتى أن سيدنا زكريا نسيبَها، وقف في مكان تعبدها تبركاً، ودعا ربه أن يرزقه ولداً صالحاً فاستجاب الله تعالى لندائه، وقال عنه في سورة آل عمران: فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ{39} (سورة آل عمران).

ويصل الأمر بمريم عليها السلام، إلى ذروة الإرباك، حين يبشرها الملَك بعيسى عليه السلام، وهي العذراء الطاهرة العفيفة التي لم يمسسها بشر، ثم يتطور الموقف عند الولادة وبعدها، حين تحمل وليدها إلى قومها، عاجزةً عن الدفاع عن نفسها فيسمعونها نوعاً من التوبيخ، ويقولون: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا {28} فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا {29} وإذا بالطفل الوليد ينطق بمعجزته الأولى فيقول للحاضرين: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا {30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا {31} وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا {32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا {33} (سورة مريم).

وفي هذا الوصف الدقيق للمشاعر ما يحرك القلوب ويدمِع العيون حباً وتعاطفاً مع هذه السيدة الصدّيقة ومع ابنِها الرسولِ الكريم عليهما السلام.

ويسأل الله تعالى نبينا عليه الصلاة والسلام، من كان حاضراً في تلك اللحظات المباركة حتى يدلي بدلوه أو يتقول على الله ما ليس له بحق؟ فيصف تنافس الصالحين أيهم يكفل مريم الصغيرة ويقول في سورة آل عمران: ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ {44} (سورة آل عمران).

ويخلص القرآن الكريم بعد سرد هذه المواقف إلى أن أساس كل هذه الأديان كان دينُ إبراهيمَ الحنيف، وأن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يحِد عن دين أبينا إبراهيم شعرةً واحدة.

ولم يذكر الله تعالى في كابه الكريم إلا بعض الأخبار عن بعض الأمم ولم يذكرها جميعاً، قال تعالى في سورة غافر: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ..{78}، (سورة غافر) ، وذلك لأن القرآن الكريم ليس كتابَ إحصاء ولا كتابَ تاريخ، بل هو كتابُ اعتبارٍ وإرشادٍ وهداية، اختار الله تعالى فيه بعض ما حصل ليكون عبرة ومثالاً.

وقد أعجزت هذه الأنباء أعداء الحقيقة، عن مجابهة القرآن، أو الإتيان ولو ببرهان صغير، يقرع حججه ويدحض رواياته، ومعاذ الله أن يفلح الكافرون.

ونأتي إلى الخلاصة، فما الفائدة في إحياء أنباء ما قد سبق بدقة وتفصيل؟ هل المقصود إقامة الحجة على المنكرين والمضللين فقط؟ أم أن القصة أبعد من ذلك وأهم، فالمقصود أولاً أن يثق الناس بأن هذا الكتاب المعجز ليس من تأليف إنس ولا جن، وأنه كلام رب العالمين، قال تعالى في سورة يونس: وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ {37} (سورة يونس).

إنه حقاً كلامٌ:{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد} {42}،(سورة فصلت)، يشجع النبي صلى الله عليه وسلم على الاستمرار في الدعوة إلى الله، فيقول له في سورة النمل: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبينِ {79}،(سورة النمل).

كما يريد الله تعالى بهذه الأنباء، أن يثبت قلب النبي ويعطيه الحجة والبرهان.

والمقصود أيضاً مخاطبة القرآن الكريم لعقل البعض وقلوب البعض، وأرواح البعض الآخر، قال تعالى في سورة هود:

وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {120} (سورة هود).

وسبحان الله فإننا على الرغم من ذلك نجد قوماً لا ينفع معهم ترغيب أو ترهيب، أصموا آذانهم وأداروا ظهورهم للهدى وانغمسوا في نعيم الدنيا وزينتها، فقصَروا النظر وقصَّروا في العمل.

وهكذا نرى كيف أتى القرآن بأنباء لم ترد في كتاب سبق، وذكر من المواقف والمعلومات التفصيلية الدقيقة عن الأنبياء والرسل، ما أعجز المعترضين الأقدمين والمحدثين عن تكذيبها أو مناقشة مضامينها.

فوجه الإعجاز إذن، هو في استعادة ما اندثر من أخبار الأمم السالفة، وفي تصحيح ما شاع من معلومات مغلوطة أو مشوشة، فأعاد إلى كل خبر حقيقته ودقته ورونقه، واستعاد مواقف الأطراف فيه، ودخل إلى أعماق أبطاله، فأخبر بما كان يدور في نفوسهم، ولا يقدر على ذلك إلا الله السميع العليم القدير الذي يعلم السر وأخفى، والذي لا يضل ولا ينسى، والذي لا يشغله شيء عن شيء، ولا تختلط عليه المسائل ولا الأصوات ولا اللغات.

ومن بلغته مثل هذه الوقائع، أصبح ألين عقلاً وأرق فؤاداً، وأكثر استعداداً واستجابةً، للإيمان بالله الواحد رباً، وبمحمد وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم أنبياءً ورسلا، وبالقرآن الكريم كتاباً وإماما.

ومن صدّق ووثِق بصدق خبر القرآن عما مضى، لا تمنعه إلا المكابرة عن الإيمان بالكتاب كله، وبما هو آت، من قيام الساعة والبعث والنشور والحشر والحساب والميزان والصراط والجنة أو النار، وهذا هو عين المطلوب.

فإذا اتعظ الانسان أعاد حساباته وغيّر نهج حياته، واتخذ قرارا بالاستقامة، وبحفظ الكرامة، ليطيع ما أمره به الله ورسوله، وينتهي عما نهى عنه الله ورسوله، فلا يعبد إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يرضي أحداً قبل الله. والحمد لله رب العالمين.