إعجاز المعاني في القرآن الكريم

أ.باسم وحيد الدين علي*

ما أحكم هذا الإله العظيم الواحد الأحد، الذي خلق لغةً حيةً قويةً رحبةً بديعةً سلسة، لتكون الحاضنة لكلامه البديع الحكيم المتين البليغ الدائم الحازم.

جمع القرآن الكريم علوم اللغة كلها، والحقيقة أنه سبق ظهور هذه العلوم وهو أصلها وباعثها، إذ إن علماء اللغة العربية الأفذاذ استقوا علوم اللغة من القرآن وعلم البلاغة أحد هذه العلوم، ويتضمن علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع؛ وعلم المعاني هو موضوعنا في هذا العدد، ويدل على حسن اختيار اللفظ المطابق للمطلوب، حتى لا تجد أفضل منه ولا أقرب.

وللمزيد من الدقة والإيضاح في المعنى، يمكن اللجوء إلى التقديم والتأخير، والوصل والفصل، ففي التقديم والتأخير، وبدلاً من قول آمن الرسول والمؤمنون نقرأ قوله تعالى في سورة البقرة :{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ …{285}. وفي سورة المزمل وبدلاً من القول: فكيف تتقون يوماً، يقول تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا {17}. وكمثال على الوصل والفصل نقرأ في مطلع سورة المنافقون:

{بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ {1}.

ورب سائل أين وجه الإعجاز في معاني القرآن؟ والحقيقة أنها أوجه في الإعجاز وليست وجهاً واحداً.

أولها: إحاطة القرآن الكريم بالمعنى أيما إحاطة، يقول الثعالبي في “الإعجاز والإيجاز”:

( من أراد أن يعرف جوامع الكلم ويتنبه على فضل الإعجاز والاختصار ويحيط ببلاغة الإيماء ويفطن لكفاية الإيجاز فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام، فمن ذلك قوله عزّ ذكره: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، استقاموا كلمة واحدة تفصح عن الطاعات كلها في الائتمار والانزجار. وذلك لو أن إنساناً أطاع الله سبحانه مائة سنة ثم سرق حبة واحدة لخرج بسرقتها عن حد الاستقامة(.

ومن ذلك قوله عز وجل: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، إذ لا شيء أضر بالإنسان من الحزن والخوف. وهما أقوى أسباب مرض النفس كما أن السرور والأمن أقوى أسباب صحتها.

ومن ذلك قوله تعالى: {أوفو بالعقود}، فهما كلمتان جمعتا ما عقده الله على خلقه لنفسه وتعاقده الناس فيما بينهم.

ومن ذلك قوله عز وجل: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس}، فهذه الكلمات الثلاث الأخيرة تجمع من أصناف التجارات وأنواع المرافق في ركوب السفن ما لا يبلغه الإحصاء.

ومن ذلك قوله تبارك اسمه: {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}، وهو كلام يجمع جميع ما يأكله الناس مما تنبته الأرض علا أو انخفض.

ومن ذلك قوله عز وعلا: {ولهنّ مثل الذي عليهن}(البقرة 228)، وهو كلام يتضمن جميع الحقوق والواجبات فيما بين الرجال والنساء.

وثاني أوجه إعجاز المعاني اختيار الكلمة الأنسب والعبارة الأسلم، إذ ليس المهم أن يلم امرؤ بأبواب البيان والفصاحة والبراعة دون ان يتسنى له معنى يسبر الغور ويخترق حجب النفس ويهز الإحساس، ويحرك الفؤاد، ومن أعلم بشجون العبد من الذي خلقه، فمن منا لا يميّز الكلام المنمق الذي لا فائدة منه، كأقوال الشعر والنثر الأنيقة شكلاً والفارغة أصلاً، الجميلة مبنىً والواهية معنى.

ولنقارن بين قول الشاعر: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم، و بين قوله تعالى في سورة الروم: وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ {53} .

ولنقارن بين الشعر المنثور: (إني خيرتك فاختاري ما بين الموت على … أو بين دفاتر أشعاري)، وبين قوله تعالى في سورة الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {3}. فشتان بين التغني والتلهي، وبين ما يدعو إلى التفكر والتدبر وبعد النظر.

وثالث أوجه الإعجاز في معاني القرآن الكريم اختيار الألفاظ والتعابير، ولينظر أحدنا كيف يجهد لاختيار الأوفق بين كلمتين تؤديان المعنى نفسه؟ أيها أشد تأثيرا وأنسب للظرف الذي تتحدث عنه؛ فيقال لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافه: يقال لفظة قلقة ونابية ومستكرهة. وهل وجد أحدنا يوماً لفظة أنسب وأفضل ليحلها محل لفظة أتى بها القرآن تفي بالغرض وتؤدي المعنى المقصود؟ رحم الله امرءاً عرف حده فوقف عنده.

ورابع أوجه إعجاز المعاني، في القرآن كيف تسبك الجمل سبكاً متتالياً بترتيب الزمن وترتيب العمل وتتابع الأحداث. ولنتفكر في قوله تعالى: { {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44}. فمن القادر على أن يعبر ويصف ويجمع ويربط ويوجز ويؤثر في نفوس سامعيه بهذا النظم البديع، غيرُ الله تعالى؟

وخامس أوجه الإعجاز في معاني القرآن المعاني الباطنة في آي القرآن والتي لا تتفتح إلا تباعاً وفقط لمن جعل القرآن شغله وهواه، وعمل بمقتضاه، وهذه مزية وهدية خصّها الله تعالى لأهل القرآن تزيد في شوقهم وتلهفهم وانكبابهم على دراسته وسبر أغواره، ويكفي أن ننظر في مئات كتب التفسير على مر القرون لنعثر بيسر على الكنوز التي حصلها الأئمة والعلماء الإجلاء. والأمثلة على ذلك أبعد من أن تحصى، ويكفي أن نذكر ما تركه لنا السلف الصالح مما فهموه من سورة الفاتحة والذي يحتاج لاحتوائه إلى مجلدات.

ولإعجاز المعاني وجه سادس يتحدث عن نفسه، وهو توافق المعاني والأفكار والأحكام والأوصاف في القرآن الكريم كله دونما تناقض، ذكره الله تعالى في محكم تنزيله متحدياً، قال في سورة النساء: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا {82}.

وأخطر الإعجاز وأظهره هو في قدرة المولى وتفرده على مخاطبة جمع من الناس بكلام واحد وغاية واحدة فيفهم كل سامع أو قاريء بالطريقة التي يستسيغها أو التي تهزه، ليشعر كل منهم أنه هو المقصود، وأن الذي يخاطبه علم ما في نفسه فكلمه على قدر فهمه وعلمه وعمله إحساناً أو إساءة. فهل لهذا التخاطب قائل غير الله؟

نختم ببضع آيات من كلام الله تعالى الذي تخترق معانيه حجب القلوب معاتباً في سورة النمل {أإله مع الله؟}، ونحن نسمعه مع الإحساس بالتقصير وبخجل ووجل، عتب المحب العطوف الكريم، الحنان الرؤوف الرحيم، في مقابل عقوق بني آدم وجحودهم ونكرانهم لذلك الفضل الإلهي العظيم:

{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ {60} أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {61} أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ {62} أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {63} أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {64}.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_________________________________________

*عضو الهيئة الإدراية لمنتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في لبنان.