الإعجاز الفني في القرآن الكريم

                       أ.باسم وحيد الدين علي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، رب السماوات السبع والأرض رب العرش الكريم.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، المرسل رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.

ثمة من يعتقد أن بين الدين وبين الموسيقى بعد شاسع، لأن الإسلام نهى عن الغناء والطرب وما يرافقهما وما يلازمهما من معاصي متنوعة كالفحش والشرب وإثارة الشهوات، وما نهى عنه الشرع من اللهو وإضاعة الوقت والمال والعافية.

لكن أحداً لا ينكر ما لبعض أنواع الموسيقى من أثر في الوجدان والعواطف، لدرجة القدرة على ترقيق القلوب وبعث الحنين وتهدئة الخواطر، في الوقت الذي يدفع بعضها الآخر إلى إثارة المشاعر وإطلاق الغرائز، وصولاً إلى القيام بحركات راقصة ماجنة يقرب بعضها من الجنون، بدلاً من الاسترخاء وتمالك النفس واستعادة الصفاء والاستقرار.

ولذلك حرص العلماء والفقهاء على مقاربة هذا الفن بكثير من الورع، فحاذروا الإباحة خشية وقوع الناس في المحظور، فدققوا وتحسسوا، حتى أنهم اختاروا أسماء رديفة للمباح من الموسيقى والغناء والنغمات فأطلقوا تسميات كالإنشاد والسماع، وكذلك الجرس بدلاً من النغمة، مثلما أطلقوا تسمية النسق القرآني من قبل لإبعاده عن الشعر والسجع والبحور واعتمدوا عبارة التقفية بدلاً من القوافي للتمييز.وأما الإيقاع فهو معروف على اختلاف ضرباته في لغات الأمم وأناشيدها وحتى في أشعارها، كما يقول الدكتور محمد مرعشلي في بحثه عن الإعجاز الفني في القرآن الكريم.

وبعيدا عن التفصيل الممل المهم هنا أن الحظر التام للموسيقى لا يقل أثراً عن الإباحة المطلقة، لأن كليهما يؤديان إلى التطرف خرقاً أو سفهاً، ويعودان على الناس وعلى انتشار الدين خاصة بين الشباب، بنتائج غير مرضية.

ويكفي القول بأن من يستمع القرآن يجد فيه حلاوة موسيقية إذا جاز التعبير، تدخل إلى أعماق النفس البشرية عبر الأذن، بلا واسطة، وتترك في النفوس أثراً بعيد المدى، يربط بين اللفظة والمعنى والنغمة، ترابطاً متماسكاً جميلاً يهزه أقل خطأ في التجويد أو لحن في اللفظ. والقصد هنا أن الخالق جل وعلا لم يترك وسيلة لإنفاذ القرآن إلى روع الإنسان، إلا اعتمدها ومن بينها صوت الإنسان وأذنيه. يقول تعالى في سورة فاطر: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1}. والزيادة قد تكون عند البعض بالصوت الحسن كما جاء في بعض التفاسير.

وعن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها أنها قالت: “سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال: لقد أوتي أبو موسى من مزامير داود”.

وإذا كان للموسيقى منفردة أثرها في أذن الإنسان ونفسه، فكيف إذا اقترنت بعبارات ذات معانٍ، وكيف إذا كانت العبارات ربانية فائقة الدقة، رائعة المعنى، جميلة الصياغة، ثم أضيف إليها صوت مؤمنٍ خاشع، يعي ما يقرأ، ويعطي من تهدُّجِ صوته ونبرة حنجرته ما يتناسب مع معاني الآيات وأجوائها، ما بين ذكر الجنة والترغيب بها للمؤمنين والتائبين، أو التهديد والوعيد للظالمين والكافرين، أو عند الحديث عن آيات الخلق والقدرة الإلهية والعظمة الربانية، أو عند الحديث عن تنزل الرحمات ولطف الأنبياء وصبر الصالحين، وتودد الداعين والمستغيثين.

دعونا نستمع إلى بعض آيات من القرآن الكريم من سورة مريم علنا نستشف شيئاً من الهيبة الإلهية من خلال الوقع الصوتي للآيات في النفوس:

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا {91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا {92} إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا {93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا {95} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا {96} فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا {97}. صدق الله العظيم

وشتان ما بين قارىءٍ للقرآن يحاول إظهار قدراته الصوتية دونما اعتبار لمناخ الآيات التي يتلوها، وبين من يعيش هذه الآيات، وكما قال سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه: لا يدخل القلوب ما لا يخرج من القلب.

ولا يستغربن أحدٌ ما قد سلف، لأنه من السنة النبوية الشريفة، فمن حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: “اقرأ عَلَيَّ، قلتُ: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: فإني أُحِبُّ أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}، قال: أمْسِكْ، فإذا عيناه تذرفان”.

ولنراجع معاً بعض وجوه الإعجاز الموسيقي في القرآن، فكيف لعبارات لا أشعار فيها، قوافيها متغيرة، وكذلك التفاعيل، أن تتالى في نسق جميل لا يخدش الأسماع بل ينساب إلى النفوس انسيابا؟

يقول الدكتور سيد قطب رحمه الله في كتابه ” التصوير الفني في القُرآن “: (إن للقُرآن إيقاعًا موسيقيًا متعدد الأنواع، يتناسقُ مع الجوّ، ويُؤدي وظيفة أساسية في البيان…جاء في القرآن الكريم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}. وجاء فيه حكاية عن كفّار العرب: {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}. وصَدَقَ القُرآنُ الكريم، فليس هذا النَّسَقُ شِعْرًا، ولكنَّ العَرَبَ كذلك لم يَكُونوا مَجانينَ ولا جاهلين بخصائص الشِّعْرِ، يومَ قَالوا عن هذا النَّسق العالي إنه شِعْر!

لقد راع خيالَهم بما فيه من تصوير بارع، وسَحَر وجدانهم بما فيه من منطق ساحر، وأخذ أسماعهم بما فيه من إيقاعٍ جميلٍ، وتلك خصائص الشِّعْرِ الأساسيّة، إذا نحن أغفلنا القافية والتفاعيل. على أن النَسَق القُرآني قد جمع بين مزايا النثر والشعر جميعًا، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة، فَناَلَ بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة، وأخذ في الوقت نفسه من خصائص الشِّعْر الموسيقى الداخلية، والفواصل المُتقاربة في الوزن التي تُغْنِي عن التفاعيل، والتقفية التي تُغْنِي عن القوافي…).

وتمتاز اللغة العربية بأجراسها الموسيقية، قبل الشروع في تنغيمها، بدءاً من الحروف: حروف الهَمْس، وحروف الصفير، وحروف التَّفْخِيم. أو في مخارج الحروف أو في اختلاف حركات الحروف ما بين فتح وضم وكسر وجزم، ثم في حركات المد المتصل والمنفصل، أو الشد أو التنوين، ويدرك ذلك من له بالتجويد باع بحيث تتيح له هذه المميزات أن يرتفع في سلم الموسيقى أو ينخفض بسلاسة دون الاضطرار إلى تشويه وقع بعض الحروف والكلمات على الأذن، بينما يجهد المنشدون في لغات أخرى في تطويل الكلمات أو تقصيرها بلا قاعدة حتى يتمكنوا من إخراج النغمة المطلوبة.

كل ذلك من ضمن إمكانات الجرس الموسيقي للألفاظ والحروف العربية. وتزيدها جمالاً وتتوسع إمكانياتها الموسيقية عندما تنضم الكلمات في الجمل وتربطها حروف العلة أو لامات النواهي أو الضمائر وأسماء الإشارة وغيرها. وهنا تظهر للغة العربية إمكانات إضافية هي القدرة على تقديم أو تأخير الفاعل أو الفعل أو المفعول بما يحسن الجرس الموسيقي للجمل.

وانطلاقاً من هذه اللغة المعطاءة، تأتي صياغة القرآن الإلهية المتقنة أيما إتقان لتضيف إلى قدرات اللغة العربية روعة السبك بما ينساب إلى الأسماع فيجذب انتباهها ثم يشنفها ثم يأخذ بلبها ثم يهزها، تقرأ مثلاً من سورة عبس: فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ {33} يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ {34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ {35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ {36} لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ {37} فإذا انساق القارىء أو السامع فاجأه تغير النسق لكي يبقى مع المعاني ولا يسرح مع سياق الألفاظ والتقفية، فيسمع: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ {38} ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ {39} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ {40} تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ {41} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ {42}.

ولا يظنن أحدٌ أن ترتيب أفراد العائلة جاء لضبط الإيقاع والتقفية في الآيات السابقة، بل هو من أصل المعنى وركائزه فالمرء المتخلّي عن القيم يتخلى عند اضطراره إلى المفاضلة، عن أخيه أولاً، قبل أمه وأبيه وعن والديه قبل زوجته وبنيه.

وما الذي تفعله الآيات التالية من سورة البروج في نفس القارىء أو السامع؟ لنلاحظ كيف يتهادى إيقاع الآيات بينما يرتفع جرسها وينخفض خطفاً ما بين تهديد ووعيد وترغيب وتمجيد بحيث يشعر المصغي أن ثمة من يقلّبه ويأخذه ويرده كالريشة في مهب الريح، يقول تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ {12} إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ {13} وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ {14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ {15} فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ {16} هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ{17} فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ {18}، ثم يطاح بالتقفية ليحصل للمستمع شيء من الحذر، فالخلاصة آتية: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ {19} وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ {20} بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ {22}.

ثم نأتي إلى سورة معجزة من الناحية الفنية، دون البحث في خطورة معانيها والأهداف، وهي سورة النجم، فهي تعتمد الألف المقصورة في تقفية معظم الآيات، والألف المقصورة حرف نادر ويصعب التحكم فيه، ومع ذلك تجده يتتالى بصلابة وإصرار، ويزداد صعوبة بتتالي الحروف التي تسبقه كالواو واللام والراء وغيرها، وترى الآيات تترى بإيقاع متقارب، وانسياب مضطرد، فإذا بجرس الحروف والكلمات والجمل يسرّع علينا التلقي والاستماع والاستمتاع وصولاً إلى الحفظ.

قال تعالى: [ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى {1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى {2} وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى {5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى {6} وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى {7} ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى {10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى {11} أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى {12} وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى {13} عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى {14} عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى {15} إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى {16} مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى {17} لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى {18}

والوزن في الآيات مسبوك وواضح، فلنأخذ مثلاً آيتي: [عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى {14} عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى {15}]. فلو قلنا “عند” جنة المأوى، بدلاً من “عندَها”، لاختل الوزن فجاء الضمير المتصل ليستقيم به الوزن، والمكون من ثمانية أصوات.

وفي وسط السورة تتغير الأوزان وتستمر التقفية، لكيلا يتمادى القارىء والسامع بالمميزات الفنية للآيات وينسى العبرة. فيتم توجيه الانتباه إلى المقارنة بين أداء الكافرين ومعتقد المؤمنين، ثم يعود مرة أخرى إلى الوزن الأول: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى {33} وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى {34} أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى {35} أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى {36} وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى {37} أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى {38} وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {39} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى {40} ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى {41} وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42} وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى {43} وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا {44} وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى {45} مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى {46} وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى {47} وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى {48} وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى {49} وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى {50} وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى {51} وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى {52} وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى {53} فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى {54} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى {55} هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى {56}.

إلى أن يحين موعد الصدمة الكبرى وكأن القاريء أو السامع قد أمضى مع هذه الآيات عمره كله وحان بعد ذلك موعد يوم القيامة ويوم الحساب، بحيث يتغير كل شيء: الوزن والتقفية والجرس وكأننا دخلنا إلى العالم الأخروي المختلف: أَزِفَتْ الْآزِفَةُ {57} لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ {58} أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ {59} وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ {60} وَأَنتُمْ سَامِدُونَ {61} فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا {62} {س}.

ونؤكد من جديد أن النغمة في القرآن ليست هدفاً بحد ذاتها، وإنما وسيلة وطريقة من طرق جذب الانتباه إلى المراد الإلهي من هدي الناس وإرشادهم، وردعهم عن الضلال والإضلال.

واخيراً، إذا كان بعض إعجاز القرآن الكريم ظاهراً للعيان بصورة حسية، فإن إعجازه الموسيقي لا يحتاج إلى كثير شرح ولا جهد ولا توضيح، فالأذن تعرف ما تريد وتصغي من غير إكراه، لكن ما العمل عندما يصم الإنسان أذنيه بيديه، ويصر بالكفر على ما هو عليه، فلا تجد وسيلة للنفاذ إليه، مصداقاً لقوله تعالى: وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون.

كم ينبغي لنا أن نشكر الله تعالى لجعله القرآن ينساب في آذاننا وعقولنا وقلوبنا بطريقة جميلة عذبة سلسة، ومن دون عناء، ليفعل القرآن فعله في القلوب المتحجرة كما قال تعالى في سورة الحشر: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {21}.

جعلنا الله من الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. والحمد لله رب العالمين.