العلاج النفسي في القرآن-1

بقلم أ. باسم وحيد الدين علي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وجد علماء الأمة في القرآن علاجاً لأمراض ولعقد نفسية كثيرة سنحاول عرض بعضها في هذا العدد.

يقول الله تعالى في سورة يونس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ {57} .

وقد أثبت علماء النفس في العالم أن الناس بلا استثناء يعانون نفسياً، ولكن بحدة متفاوتة، يقول الله تعالى عنا بني البشر في سورة النساء: {وخلق الإنسان ضعيفا}. وفي سورة المعارج: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20}. ومن أشهر العقد والأمراض النفسية عند عامة الناس:

1-الخوف: والخوف أنواع، خوف من الظلمة، وخوف من الوحدة ومن الوحشة، وخوف من الجوع ومن المرض ومن الفقر، وخوف من الحر أو البرد أو المطر أو من الماء أو السباحة، وخوف من الأماكن العالية أو من الأماكن الضيقة أو من المصاعد أو الأنفاق، وخوف من اليتم، وخوف من المواجهة ومنه الجبن، وخوف من الدم ومن الإصابة بجروح، وخوف من الموت ومن القبر، وصولاً إلى تفاقم الخوف لدرجة الخوف من المجهول الآتي حتى من قبل أن يأتي.

2-ثم الحزن: ومنه الحزن الذي يسببه الاضطهاد: مثل الشعور بالدونية والعزلة، كالبعد عن الأصحاب أو حتى الأقارب، والحزن الذي تسببه العقد الاجتماعية والطبقية، والحزن بسبب العقد الخَلْقية في النطق أو التعبير وفي الحركات اللاإرادية، والحزن الذي يسببه الاستهزاء، والإيمان بنظرية التعرض للمؤامرة أي عدم الثقة بالناس، والحزن الذي يسببه عدم الثقة بالنفس، أو بالشكل الخارجي، كالنقص في الجمال، أو قصر القامة أو الصوت الرفيع أو العريض، والحزن الناتج عن تدني مستوى الفهم والذكاء أو الذاكرة .

ومن الحزن أيضاً ذاك الناجم عن الضعف ، ومنه التعرض للاعتداء أو التحرش أو الممارسة، عليه أو منه أو على أحد أقربائه، أو من أحدهم أو حتى على شخص غريب.

والحزن الناتج عن الظلم، منه أو عليه او على أحد احبابه، كالتعرض للضرب المبرح، أو الهجر أو الطلاق، أو الطرد من المنزل أو الطرد من العمل، والتعرض للسرقة أو الابتزاز، والشعور بالقهر أو الضعف أو العجز…

3-ثم هناك عقد متعاظمة: سببها استفحال العقد البسيطة التي لم تعالج فتكوّن أمراضاً أصعب ومنها عقدة السيطرة والتملك والتعاظم والتظاهر والادعاء. وصولاً إلى عقدتي الذعر أو الرهاب وهو أقصى الخوف وعقدة الانهيار العصبي وهو أقصى الحزن.

وإذا نظرنا إلى هذه الأمراض أو العقد النفسية الغالبة على أكثر الناس نجد أنها تتمحور حول عقدتين أساسيتين وهما الخوف والحزن. وصدق الله العظيم الذي أوجز لنا ذلك منذ أن أنزل القرآن الكريم على قلب رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال في سورة يونس:

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{62}. وقد تكرر ذكر الخوف والحزن مجتمعيْن في ست عشرة آية. لكي نعلم أن الخالق العظيم دلّنا على المرض ثم علمنا كيفية الخروج منه.

وتختلف درجة المعاناة بين شخص وآخر بحسب ما يمر به الانسان من تجارب وأزمات ومحن، ومعظم العقد النفسية البسيطة أولية عامة وعادية، كما يعلم الأطباء النفسانيون، فمن الناس من يساعده والداه أو معلموه على تخطي بعض العقد النفسية ومنهم من يملك الجرأة على مواجهة عقده ويحلّها معتمداً على نفسه متحلياً بالعقلانية والشجاعة، هذا إذا كانت العقد النفسية بسيطة، ويسهل الخروج منها، وما أكثرها.

دور الثقافة عامة والقرآن خاصة في تذليل العقد الأولية:

تساعد الثقافة على توسيع المعارف والمدارك وبالتالي على تذليل بعض العقد النفسية البسيطة وعلى اكتشاف الطرق المناسبة للمعالجة، سواء أدرك الانسان ما يحصل له أم لم يدرك.

وأهم ثقافة نفسية يمكن للإنسان أن يحصّلها هي ثقافة القرآن ففيه من كنوز معالجة العقد النفسية البسيطة والمتوسطة والخطيرة ما يسترعي الانتباه ويدعو إلى العجب.

إذ لم يهمل القرآن الكريم حتى أمر العقد البسيطة، ولم يدع أمر معالجتها على عاتق الإنسان وذويه ومعلميه وحدهم، بل نبّه إلى بعضها لخطورتها ثم أوكل أمر التنفيذ والتطبيق إليهم، ومنها ما ورد في سورة لقمان بدأها الله سبحانه بشرط الإيمان والتوحيد لتحقيق الإنسان السويّ، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {13}. لتحقيق الاستقرار النفسي، ولربط مسار الحياة بالقوة العظمى، ثم بضرورة بر الوالدين لتحقيق الاستقرار العائلي والمحيط الأسري: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ {14} ثم في توضيح تفاصيل العقيدة وترسيخها: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ {16}. ثم بتحسين العلاقة مع الخالق والمعاملات مع الخلق، والثقة بالنفس: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {17}. ثم بالظهور في المجتمع باعتدال وواقعية: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {18} وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ {19}.

العقد النفسية المتوسطة:

وأما العقد والأمراض المتوسطة، فقد أولاها القرآن الكريم الأهمية اللازمة وتولى أمر معالجتها بعرض الداء ووصف الدواء، نذكر منها وبإيجاز:

1-عقدة الهزء والسخرية: يعزي الكتاب الكريم أولئك الذين يتعرضون للسخرية لأسباب مختلفة، بل ويرفع من معنوياتهم، ويحذر الساخرين، فيقول الله تعالى في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {11}.

2- عقدة البخل: البخل مرض أساسه نفسي ، ويعالج القرآن المصابين بالبخل بطريقة متدرجة، بدءاً من دفع الزكاة فرضاً وشرطاً للانتماء إلى الإسلام، تماماً كما يعالج المدمنين على الخمر ثم يقول في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ {254}، حتى يصل بهم إلى الحض على الإنفاق مقروناً بالأدب في الإنفاق فيقول: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {261} الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {262}.

ثم يعالج البخل المستشري بكلام رادع فيقول في سورة المنافقون: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ {10} وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {11}.

3-للخائفين من استبطاء الرزق أو انقطاعه: يقول الله تعالى في سورة الذاريات مطمئناً: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22} فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ {23}. ويقول لهم أيضاً في سورة العنكبوت: وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {60}.

4-وللقلقين من الزواج خشية الإنجاب وخوفاً من المسؤولية، يطمئنهم الله عز وجل في سورة الإسراء فيقول: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا {31}. بل ويشترط عليهم ألا يستبدلوا الزواج بالزنا وهو الكفيل لهم، إذا تحصنوا، برزقهم ورزق عيالهم فيتابع قائلاً: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً {32}.

ولا يكفي المريض نفسيا أن يأخذ علماً بمرضه أو بعقدته النفسية، دون اعتماد سبل المعالجة، بل عليه أن يتبع العلاج، تطبيقا بالمداومة على الصلاة، وبتغيير صحبة السوء وبحضور مجالس العلم، تماماً كما يجري في عيادات الطب النفسي من اجتماعات ومذاكرات. لكن عمق المعالجة مع اهل القرآن يخفف الوطء على المريض ويعجل في شفائه، لأن المعالجة القرآنية مركبة بالصلاة والصيام والزكاة وبالتخلق وبالتسبيح وبالمواظبة على قراءة القرآن.

هذا فيما يتعلق بطرق المعالجة المباشرة للعقد النفسية العادية والمتوسطة ونترك معالجة القرآن للعقد النفسية الأخطر إلى العدد القادم إن شاء الله.

 clip_image692