المحكم والمتشابه

باسم وحيد الدين علي

يعود علم المحكم والمتشابه من القرآن الكريم إلى قوله تعالى في سورة آل عمران:

{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ {8}.}.

ومن الحديث الشريف، أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا “. وأخرج البيهقي في الشعب نحوه من حديث أبي هريرة.

ولابن حبيب النيسابوري في المسألة ثلاثة أقوال. أحدها: أن القرآن كله محكم لقوله تعالى كتاب أحكمت آياته . الثاني: كله متشابه لقوله تعالى كتاباً متشابهاً مثاني . الثالث وهو الصحيح: انقسامه إلى محكم ومتشابه للآية التي في سورة آل عمران. والجواب عن الآيتين أن المراد بإحكامه إتقانه وعدم تطرق النقص والاختلاف إليه، وبتشابهه كونه يشبه بعضه بعضاً في الحق والصدق والإعجاز…

أقوال العلماء في المحكم والمتشابه: اختلف في تعيين المحكم والمتشابه على أقوال. فقيل: المحكم ما عرف المراد منه، إما بالظهور وإما بالتأويل. والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل: المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه. وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما احتمل أوجهاً. وقيل: المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره. وقيل: المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل. …وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. وأخرج الفريابي عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضاً…[i]

التعريف: يفهم من قَوْله تَعَالَى : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّفْظُ الَّذِي لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ وَلَا يَحْتَمِلُ عِنْدَ سَامِعِهِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا ،{ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } وَالْأُمُّ هِيَ الَّتِي مِنْهَا ابْتِدَاؤُهُ وَإِلَيْهَا مَرْجِعُهُ ، فَسَمَّاهَا أُمًّا ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ بِنَاءَ الْمُتَشَابِهِ عَلَيْهَا وَرَدَّهُ إلَيْهَا . والْمُتَشَابِهُ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِلْمَعَانِي ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ ، وَلَا اشْتِرَاكَ فِي لَفْظِهِ.[ii]

لطيفة: ومن الملفت أن هذه الآيات تتضمن نوعاً من المتشابه، في فهم المقصود من حرف الواو الذي يسبق”الراسخون في العلم”، هل هو حال أو مبتدأ فتعني جملة جديدة تحصر العلم بمتشابهه بالله تعالى وحده؟ أم حرف عطف يجعل الراسخين في العلم مطلعين على المتشابه من القرآن!

أخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} قال: إنا مما يعلم تأويله. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله {والراسخون في العلم} قال: يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال الراسخون في العلم يعلمون تأويله لولم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه ولا حلاله من حرامه ولا محكمه من متشابهه. واختار هذا القول النووي فقال في شرح مسلم إنه الأصح لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.

وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم خصوصاً أهل السنة فذهبوا إلى الثاني، استناداً إلى ما روي عن ابن عباس في تفاسير أخرى، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه كما مدح الله المؤمنين بالغيب.

تحذير من تأويل المضلين: أخرج الشيخان(البخاري ومسلم) وغيرهما على عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله {أولوا الألباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فأحذرهم”. وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله …”. إلى آخرالحديث.

وأخرج الدارمي في مسنده عن سليمان بن يسار: (أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن صبيغ فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى دمى رأسه، ثم تركه حتى برأ ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري: لا يجالسه أحد من المسلمين).[iii]

وليس المقصود من هذا التشدد إلا لأن بعض الناس المغترين بعقولهم والذين يحبون أن يحمدوا بين الناس بادعائهم العلم والمعرفة ليظهروا عليهم يحاولون النيل أو الدس بتفسير ما أشكل على الناس فضلّوا وأضلّوا فزاغت قلوبهم وأزاغوا القلوب المترددة.

قال ابن الحصار: من لم يكن على يقين من المحكمات وفي قلبه شك واسترابة كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات.

أنواع المتشابه: من المتشابه في القرآن بعض ألفاظ الاستعارة كقوله تعالى: فأقبلوا إليه يزفون، وكذلك ألفاظ التشبيه يداه مبسوطتان والرحمن على العرش استوى كل شيء هالك إلا وجهه، يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله (أي في حقه وما أوجبه عليّ)، ويحذركم الله نفسه (أي عقوبته)، ومن ذلك الساق في قوله (يوم يكشف عن ساق ومعناه: عن شدة وأمر عظيم، كما يقال قامت الحرب على ساق، قال ابن عباس يوم الحرب هو يوم كرب وشدة.. ومن المتشابه أيضاً حين يقصر القاريء المعنى على بعض الآية : فانكحوا ما طاب لكم من النساء دون أن يقرأ التتمة، وقوله تعالى: وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها، وقوله: فأفيضوا من حيث أفاض الناس ومن لا يعرف عادات الجاهلية يصعب عليه فهمهما وتفسيرهما.

ومن المتشابه أوائل السور، والمختار فيها أيضاً أنها من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى. أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سراً، وإن سر هذا القرآن فواتح السور. وخاض في معناها آخرون، كتفسير ابن عباس ألم: أنا الله أعلم، ألر: أنا الله أرى، وأول آخرون الراء من الرحمن والصاد من الصمد والكاف من الكريم…باعتبارها من أسماء الله الحسنى. فأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: فواتح السور أسماء من أسماء الرب جل جلاله فرقت في القرآن.

وهذه الأقوال راجعة إلى قول واحد وهوأنها حروف مقطعة كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى والاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربية. قال الشاعر:

قلت لها قفي فقالت ق … (أي وقفت).

 وقيل هي تنبيهات، وقيل إنها الاسم الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منا، كذا نقله ابن عطية. وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود قال: هواسم الله الأعظم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي أنه بلغه عن ابن عباس قال الم، وطسم، وص وأشباهها قسم أقسم الله به وهومن أسماء الله،

وقيل هي من أسماء القرآن…وقيل هي أسماء السور…وقيل هي فواتح السور كما يقولون في فواتح القصائد ولهذا لم يجد المشركون غرابة في هذه الألفاظ ولم يعترضوا عليها…

قال القاضي أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته: ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولاً وأزيد، ولا أعرف أحداً يحكم عليها بعلم ولا يصل منها إلى فهم، والذي أقوله أنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولاً متداولاً عنهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، بل تلا عليهم حم، فصلت، ص وغيرها فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوقهم إلى عثره وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمراً معروفاً بينهم لا إنكار له[iv].

كما قيل في طه ويس هي اسمان من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.

فوائد المحكم والمتشابه: من فوائده حث العلماء على البحث والتقصي، وعدم الاكتفاء بالشرح والتلاوة، وظهور التفاضل وتفاوت الدرجات، وامتحان العباد لفضح المشككين والمرتابين والمنافقين، وتثبيت إيمان المؤمنين بتفويضهم وتسليمهم بما أشكل عليهم من المعاني لأنه من عند الله لا يأتيه الباطل، وحثهم على قصد العلماء وتعلم العلم النافع حتى يتكون لديهم مفهوم المتشابه واضحاً كمفهوم المحكم. فيتضح لهم مثلاً معنى الآيتين الكريمتين: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ }{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } فَوَصَفَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِالْإِحْكَامِ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } فَوَصَفَ جَمِيعَهُ بِالْمُتَشَابِهِ المتجانس الذي لا تعارض بين آياته.

وقال بعض العلماء أن من فوائده أن الناس وهم مذاهب شتى وعقليات مختلفة لكل منها خصائص وطرق اجتذاب، تجد في المتشابه ما يعجبها فإذا جذبها وتدارسته اتضحت المعاني وانسجم الكل باتباع المحكم.

فالمحكم إذن يعرف بوضوح اللغة والمعنى وهو لايحتمل التأويل، وأما المتشابه فلا يمكن فهمه إلا بعد علم وفكرة ونظر ومن أوله إلى القبيح دل على زيغه وضلاله وبطلانه.

الخلاصة: على الرغم من التوسع بعض الشيء في هذا المقال فقد أوردنا كثيراً من أقوال العلماء توضيحاً للأهمية، وتلقيحاً ضد أقوال المفسدين الذين يجتزئون بعض آيات القرآن دون البعض الآخر لغايات ومآرب تضلل الجاهلين وتفسد عقول البعيدين عن العقيدة والدين، فيؤلفون كتباً بعضها عن القدرية في القرآن وأخرى عن المرجئة وآخر عن الجنس في القرآن وأخرى عن العنف في القرآن والإرهاب في الإسلام ليستدلوا بآيات راقية الأهداف سامية المعاني على تأكيد قبح أهدافهم وزيغ نواياهم وفساد عقيدتهم.



[i]  الاتقان في علوم القرآن للسيوطي. (ج 1 / ص 231)

[ii] أحكام القرآن للجصاص – (ج 3 / ص 374)

[iii]  الاتقان في علوم القرآن للسيوطي. (ج 1 / ص 233)

[iv] الإتقان – (ج 1 / ص 241)