جمع القرآن وحفظه

باسم وحيد الدين علي

 

في أخبار جمع القرآن والتشدد في حفظه والمبالغة في التقصي عنه، ما يثلج فؤاد المؤمنين، ومع كثرة المستشرقين والمشككين، وجد الباحثون والمؤرخون الجادون أن القرآن الكريم حظي بعناية المسلمين أئمة وخلفاء وعلماء وفقهاء وعامة ما لم يحظ بدقته وعنايته كتاب غيره من قبل ولا من بعد. ولا غرو فتمسك المسلم بكتابه نابع من تمسكه بعقيدته ومن حرصه على دينه، ومن خشيته من أن يؤدي إهماله إلى إغضاب ربه كيف لا والقرآن هو كلام الله المنزل ووصية رسوله الأمين[1].

وزاد من ثقة المسلمين وتشددهم بالمحافظة على القرآن الكريم أن الله تعالى تعهد بجمعه وبحفظه، قال تعالى في سورة القيامة:{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {17}. وقال في سورة الحجر: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9}.

وكما كان جبريل الأمين ينزل بالوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان ينقل للنبي ترتيب السور والآيات كذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكتبة الوحي:” ضعوا آية كذا في موضع كذا “[2].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطبع أكثر الناس حرصاً على حفظ كلام الله تعالى  في الصدور وفي السطور:

أما في الصدور، فكان يطيل من قراءة القرآن في صلاة الليل وكان يقرأ أحياناً مائة آية أو أكثر في الركعة الواحدة، وكان يحب أن يسمعه من أفواه بعض الصحابة، وكان جبريل يعرضه على النبي (يدققه معه) خلال شهر رمضان من كل عام. وكان صلى الله عليه وسلم يشجع الصحابة على حفظه ويتعهده فيهم فيسمعه منهم ومن هؤلاء عدد من الأنصار [3] وكثير من المهاجرين اشتهر منهم عثمان وعلي وابن مسعود وأبو موسى الأشعري وغيرهم كثير منهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وانس بن مالك .

وأما حفظه في السطور فكان صلى الله عليه وسلم يوكل أمر تدوينه إلى عدد من الرجال الثقات وليس إلى رجل واحد أو إلى قلة، مما جعل كلام الله تعالى محفوظاً في صدور عدد غير قليل من الصحابة ومدوناً ولو متفرقاً  لدى عدد كبير ممن يجيد القراءة والكتابة منهم. وقد خسر رسول الله حوالي السبعين من القرّاء دفعة واحدة كان قد أرسلهم لتعليم قوم القرآن فغدروا بهم[4].

وساعد في حرص المسلمين الأوائل على القرآن، اشتهارهم منذ الجاهلية بقوة ذاكرتهم في حفظ الشعر والأدب البليغ، ونزول القرآن تباعاً فكانوا يحفظونه تباعاً، وحاجتهم لقراءة شيء من القرآن في الصلاة، وضرورة العمل به هم ومن انتسب إليهم من أزواج وأولاد وأتباع.

وبلغ حرص النبي على القرآن أن منع أياً كان أن يدون حديثاً من أحاديثه صلى الله عليه وسلم فقال: ” لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن فمن كتب شيئاً غير القرآن فليمحه”[5].

لكن انتشار القرآن في بيوت المسلمين الأوائل لم يكن كافياً وافياً لدى خلفاء الرسول، فقد أدت حرب الردة في عهد أبي بكر الصديق إلى استشهاد عدد غفير من المسلمين، بينهم ما يزيد على السبعين قارئاً، مما دفع عمر بن الخطاب إلى حض أبي بكر على جمع القرآن قبل أن تختفي بعض الآيات بمقتل الحفاظ وبانتقال الرقاع المتفرقة المكتوبة مع المجاهدين إلى الأمصار.

يقول الصحابي زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وكان ممن يكتب الوحي، في ذلك:

(أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد بن ثابت، وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم}. إلى آخرهما.

وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر) [6].

ثم كان من الطبيعي أن يعمم المصحف المدقق على أهل الأمصار قبل أن يؤدي تناقله مجزءاً بين الناس إلى اختلاف في الفهم وفي القراءة. فقد قدم حذيفة بن اليمان على الخليفة عثمان بن عفان من العراق:” وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب، اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها أليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، فافعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا،[7] وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}. فألحقناها في سورتها في المصحف.” [8].

ولم يلق ما فعله عثمان معارضة تذكر من أي من الصحابة وهم الغيورون على العناية بكلام الله، مما يدل على اتفاقهم على شمول الجمع لجميع الآيات التي حفظوها، وعلى دقة التدوين والتدقيق[9].

بقي أن نذكر أن مصحف عثمان خط كما خط على عهد رسول الله ولم ينقط ولم يحرك ولم تفصل آياته حتى عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 65 للهجرة، فتدخل بعض البلغاء لتوضيح الرسم القرآني، بعد أن وجدوا لدى الأعاجم عجزاً عن لفظ بعض الكلمات على النحو الذي يقرأه العرب.

وعن غيرة هؤلاء وما دفعهم إلى تنقيط القرآن ووضع الحركات على حروفه، يروى أن أبا الأسود الدؤلي كان قد رفض القيام بذلك لما دعاه إليه زياد والي البصرة، لكنه سمع مقرئاً يتلو من سورة التوبة قوله تعالى: {أن الله بريء من المشركين ورسوله}، بجرّ اللام في كلمة رسوله، فأفزعه هذا اللحن(الخطأ في التلاوة)، وقال: (عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله). فذهب إلى الوالي وقال له:( قد أجبتك إلى ما سألت)، فنقّط حروف القرآن وحرّكها.ثم اتى الخليل بن أحمد في العصر العباسي الأول ففرق بين شكل الحركات والنقاط ومواضعها، مما سهل القراءة على المسلمين الجدد من مختلف الأجناس، وانتقلت هذه التحسينات من مصاحف البصرة إلى مصاحف سائر الأمصار.

والخلاصة أن غيرة المسلمين الأوائل، وتشددهم في جمع آيات القرآن الكريم وسوره، ساعدت ليس فقط في حفظه على الوجه الذي أنزل فيه، بل ساعدت على أن يكون للمسلمين على اختلاف مذاهبهم كتاب واحد جامع يقرأ فيه الناس من إندونيسيا إلى أقاصي الغرب. مما دفع عدداً من المستشرقين إلى الاعتراف بصحة القرآن والإعجاب بهذه الدقة وهذه الغيرة[10].

 



[1] من حديث: “…إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيكم…” أخرجه الحاكم عن ابن عباس.

[2] الزركشي، البرهان، ج1 ص256.

[3]  أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار: أبي، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت. قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي.

[4]  أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان، فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدوه على قومهم، فأمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين من الأنصار، قال أنس: كنا نسميهم القراء، يحطبون بالنهار ويصلون بالليل، فانطلقوا بهم، حتى بلغوا بئر معونة غدروا بهم وقتلوهم، فقنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان.

[5]  أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري.

[6]  أخرجه البخاري عن ابن السباق.

[7]  والراجح أن عدد النسخ كان خمسة إضافة إلى نسخة عثمان في المدينة.

[8]  اخرجه البخاري عن أنس بن مالك.

[9] عتر، نور الدين، علوم القرآن الكريم، مطبعة الصباح بدمشق، ص78.

[10]  فرشوخ ، أمين، مدخل إلى علوم القرآن.دار الفكر العربي بيروت، ص126-127.