فواتح السور

باسم وحيد الدين علي

بسم الله الرحمن الرحيم

يعرف الرحمن الذي علم القرآن، وهو الذي بخلقه أعلم وأحكم، كيف يخاطبهم وكيف ينبههم وكيف يدلهم على ما يفيدهم ويصلحهم وينجيهم، فيفتتح السور القرآنية بما  يجذب السامع ويشد انتباه القاريء بأساليب متنوعة بتنوع العقول والأفهام والرغائب. فيبدأ بعضها بالحمد وبعضها بالتسبيح، وآخر بالنداء والقسم والأمر والاستفهام والدعاء والشرط، والإخبار…

لكن أكثر ما يلفت النظر هو حروف الهجاء المقطعة التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة  من القرآن الكريم، فيقرأ في أوائل عدد من السور حرفاً أو حرفين أو أكثر من مثل: {ق} و{حم} و{ألم} و{ألمص} و{كهيعص} وغيرها. وقد أجمع أهل العلم على تسميتها ” فواتح السور”.

ورب سائل، ما معنى هذه الأحرف؟ وما هو القصد منها؟ وهل عرف العرب من قبل مثل هذه التعابير؟ وماذا قالوا فيها؟ ولم أنزلها الله تعالى؟

أولاً- هي حروف وليست كلمات:

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها. لا تقول {ألم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف.[1]

ثانياً-عرف العرب اختصار بعض الكلمات واستعملوها، لكنهم ما وقفوا على مثل هذه الأحرف: قال الزجاج: أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله: فقلت لها قفي فقالت قاف أي وقفت.

وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة) قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: أقْ، كما قال عليه السلام (كفى بالسيف شا) معناه: شافيا.

ثالثاً- ما هو القصد منها ولماذا أحجم الصحابة وحتى المشركين عن مناقشة أمرها مع النبي صلى الله عليه وسلم؟

(هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم … كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: “الم” و”المص” استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: “لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه” [فصلت: 26] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة)[2]. والدليل على ذلك أن أغلبها نزل في مكة المكرمة وقبل الهجرة لكي تسترعي انتباه المشركين إلى الدين الجديد.

وروى أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما “حم” فإنا لا نعرفها في لساننا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدء أسماء وفواتح سور). وقال الضحاك والكسائي: معناه قضي ما هو كائن. كأنه أراد الإشارة إلى تهجي “حم”؛ لأنها تصير حم بضم الحاء وتشديد الميم؛ أي قضي ووقع.

مما دفع بالمشركين إلى التخوف من الخوض بما سمعوا لا لجهلهم بل لبلاغتهم ومعرفتهم بأن  مثل هذه الصيغ ليست من قول البشر.

وأما سكوت الصحابة عن ذلك فلم يكن إلا إيماناً وتصديقا وإذعانا وتبجيلا فقد وقرت هيبة الله وهيبة رسوله في نفوسهم ولم تكن معاني هذه الحروف لتزيد شيئاً في إيمانهم. فعن أنس قال:  ( كُنّا نَتَمَنّى أن يَأتي الأعْرَابِيّ العَاقِلُ فَيَسْأَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ونَحْنُ عِنْدَهُ،…).

رابعاً-كيف تأولها بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين؟

أ-قالوا هي من أسماء الله تعالى: عن ابن عباس في قوله {الر} و (حم) و (ن) قال: حروف الرحمن مفرق، وعن عامر أنه سئل عن فواتح السور نحو {ألم} و {الر} قال: هي أسماء من أسماء الله مقطعة الهجاء، فإذا وصلتها كانت من أسماء الله تعالى وقال عكرمة: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(“حم” اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربك).

وعن ابن عباس في قوله {ألم} قال: أنا الله أعلم، وفي قوله {الر} قال: أنا الله أرى، وعن محمد بن كعب {طه} قال: الطاء من ذي الطول، وعن ابن عباس في قوله {ألم} قال: هو اسم الله الأعظم.

ب-وقالوا هي من أسماء القرآن الكريم: عن قتادة في قوله {ألم} قال: اسم من أسماء ألقرآن.[3]

وكذلك قاله مجاهد .

ج-وقالوا هي من أسماء السور: عن زيد بن أسلم قال {ألم} ونحوها أسماء السور. مثل {ألم} السجدة و{حم} الدخان.

د- منها ما أقسم به الله تعالى: [4]عن ابن عباس في قوله {ألم} و (المص) و (الر) و (المر) و (كهيعص) و (طه) و (طسم) و (طس) و (يس) و (ص) و (حم) و (ق) و (ن) قال: هو قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله.

والحكمة من القسَم أن العرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده.

هـ-وقيل أن منها أسماء للنبي صلى الله عليه وسلم وصفاته:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي عشرة أسماء عند ربي قال أبو الطفيل: حفظت منها ثمانية: محمد وأحمد وأبو القاسم والفاتح والخاتم والماحي والعاقب والحاشر،[5] وزعم سيف أن أبا جعفر قال: الإسمان الباقيان {طه} و{يس}.

وقيل: هذا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فـ “الحاء” حوضه المورود، و”الميم” ملكه الممدود، و”العين” عزه الموجود، و”السين” سناه المشهود، و”القاف” قيامه في المقام المحمود، وقربه في الكرامة من الملك المعبود. وقال ابن عباس: ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه: “حم. عسق”؛ فلذلك قال: “يوحي إليك وإلى الذين من قبلك” المهدوي: وقد جاء في الخبر أن (“حم. عسق” معناه أوحيت إلى الأنبياء المتقدمين).

و- وقيل هي اختصار أسماء وكلمات:

روى نافع عن ابن عباس: “الحاء” حلمه، و”الميم” مجده، و”العين” علمه، و”السين” سناه، و”القاف” قدرته؛ أقسم الله بها. وعن محمد بن كعب: أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناه وقدرته ألا يعذب من عاذ بلا إله إلا الله مخلصا من قلبه.

وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى،(من شدة التعب)، فأنزل الله {طه} يعني طأ الأرض يا محمد، {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}.

ز-كما قيل أن بعضها معروف في لغات أخرى:

عن ابن عباس في قوله: {طه} بالنبطية أي {طا} يا رجل[6]. وقيل باللغة السريانية. وأخرج الحاكم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {طه} قال: هو كقولك يا محمد بلسان الحبش.

ح-وقيل أنها أسرار لا يعلمها إلا الراسخون في العلم:

وذكر القشيري، واللفظ للثعلبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجه؛ فقيل له: يا رسول الله، ما أحزنك؟ قال: ” أخبرت ببلايا تنزل بأمتي من خسف وقذف ونار تحشرهم وريح تقذفهم في البحر وآيات متتابعات متصلات بنزول عيسى وخروج الدجال”.

قال إبن عباس: وكان علي رضي الله عنه يعرف الفتن بها، وقال رجل لابن عباس وعنده حذيفة بن اليمان: أخبرني عن تفسير قوله تعالى: “حم. عسق” ؟ فأعرض عنه حتى عاد عليه ثلاثا فأعرض عنه. فقال حذيفة بن اليمان: أنا أنبئك بها، قد عرفت لم تركها؛ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبدالإله أو عبدالله؛ ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقا، فإذا أراد الله زوال ملكهم وانقطاع دولتهم، بعث على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة، فتحرق كلها كأنها لم تكن مكانها؛ فتصبح صاحبتها متعجبة، كيف قلبت! فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا؛ فذلك قوله: “حم. عسق” أي عزمة من عزمات الله، وفتنة وقضاء حم: حم. “ع”: عدلا منه، “س”: سيكون، “ق”: واقع في هاتين المدينتين. [7]

خامساً-كيف تعامل معها الورعون؟

قال الشعبي لداود بن أبي هند عن فواتح السور: يا داود إن لكل كتاب سراً، وإن سر هذا القرآن فواتح السور، فدعها وسل عما بدا لك.[8]

ومع ذلك فقد أخذت هذه الأمور حيزاً كبيرا من اهتمامات علماء المسلمين وغيرهم، كما ظهرت في نصف القرن الأخير دراسات إحصائية ورقمية لفواتح السور ولغيرها كالأسماء الحسنى وبقية حروف القرآن الكريم. [9]

سادساً- هل النظر فيها مباح؟   

من خلال تنوع الآراء في هذه الحروف نجد إجماعاً أكثر مما نجد اختلافاً حاداً على أن هذه الحروف تدخل في المتشابه وحكمه، وأن في البحث فيها فوائد جمة تلفت الانتباه وتنير العقل وتحث على الفهم، وذلك لمن أراد الله به خيرا، وأما الذين في قلوبهم مرض فلا يزيدهم مثل هذا الأمر إلا زيغاً في قلوبهم وشتاتاً في أفكارهم.

قال القرطبي: قال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ويلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.

وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقّه الناس.

خاتمة:

نستنتج مما سبق أن هذا الترميز للحروف المقطعة، يشد الانتباه ويفتح الأذهان ويدعو إلى التفكر، ويشعر العبد بهيبة الخالق وبإعجاز كلامه وعجز الخلق عن مجاراته، حتى أن بعض الباحثين وجد في فواتح السور المقطعة سر إيقاع السورة وتردد أحرفها ووقعها على الأسماع.

ونختم بهذه الملاحظة العميقة والمؤثرة التي وردت عن الربيع بن خيثم:

(إن الله تعالى أنزل هذا القران فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عز وجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد). [10]

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب)، ثم قرأ: “الذين يؤمنون بالغيب” [البقرة: 3]. والحمد لله رب العالمين.



[1] أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي وصححه وابن الضريس ومحمد بن نصر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه وابن مردويه وابو ذر الهروي في فضائله والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود.

[2]  القرطبي في تفسير الآية 1 من سورة البقرة.

[3]  أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم

[4]  أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في كتاب الأسماء

[5]  أخرجه ابن مردويه، عن أبي الطفيل قال:

[6] وأخرج الحارث بن أبي أسامة وابن أبي حاتم،

[7]   أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، ونعيم بن حماد، والخطيب، عن أرطاة بن المنذر .

[8]  أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ بن حبان في التفسير عن داود بن أبي هند.

[9]   أحمد عبد الهادي الصغير، الأحرف النورانية وأسرارها الربانية، دار الإيمان، دمشق 1429هـ/2008م.

[10] ذكره أبو بكر الأنباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم.