من لطائف وجوه إعجاز القرآن الكريم

أ.باسم وحيد الدين علي

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولد، والصلاة والسلام على النبي المعتمد، سيدنا محمد، تحمل بالصبر والجلد، لتبليغ رسالة قل هو الله أحد.

في القرآن الكريم وجوه من الإعجاز خفيت عن الأبصار وظهرت في البصائر، لا يدركها إلا من أحب القرآن وألف قراءته فصار الكتاب الكريم نديمه وجليسه وأنيسه.

من هذه الوجوه ما ورد في كتاب الله تعالى، ومنها ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما استنبطه العلماء القدماء منهم والمحدثون رضي الله عنهم وأرضاهم.

1-الوجه الأول أنه كتاب لا تناقض فيه ولا اختلاف: القرآن كتاب رباني منسجم متكامل لا تناقض فيه ولا اختلاف، يقول الله تعالى عن ذلك في سورة النساء: }ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} {82}. وعلى من يرى اختلافاً في المعاني أو تناقضاً فليعلم أنه ظاهري مقصود وليحذر لأن في ذلك امتحان لقوة إيمانه، وليستفسر من أهل العلم حتى تنجلي له الحقائق ويتضح له انسجام المعاني وتكامل الآيات.

فإذا تعود المرء قراءة الآيات بوعي وتدبر، أخذ يفقه المعاني المقصودة، ويفقه الحكمة من كل حكم وعظة ومثل وقصة. وإذا توغل أكثر ودقق، لرأى الآيات تفسر بعضها بعضا وتكمل بعضها بعضا وتؤازر بعضها بعضا.

2-والوجه الثاني غزارة المعاني: ففي القرآن إعجاز خفي آخر، هو غزارة المعاني وحلاوة الثمر، ونقصد بذلك أن قاريء القرآن، إذا ألف قراءته، يجد في القراءة تلو القراءة معانٍ متجددة توحي له بأفكار جديدة، يعجب بها ومنها ، فيتساءل لمَ لمْ يفهم الآية التي قرأها لتوه على هذا النحو من قبل، كما يزداد عجباً وإعجاباً حين تؤتي الآية ثمراً جديداً طيباً عندما يستشهد بها أو يعود إليها. كما قال المولى تعالى في سورة إبراهيم: تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها… وعن ذلك أشار أبو الدرداء رضى الله عنه حين قال: (لا يكون الرجل فقيها حتى يحمل الآية الواحدة على محامل متعددة).

وعن القرآن في ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” وَلاَ يَخْلَقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ”. أي لا تبلى معانيه ولا ألفاظه، ولو كثر تردادها. وهذا سرٌ عجيب لأننا مهما أعجبنا بكتاب معين، فلن نكرر قراءته إلا لماما، بينما نجد في الكتاب الكريم دائماً ما يشدنا إليه من معاني متفجرة كالينابيع ومن حكم كالثمار ، ألم يقل فيه بعض المشركين من قريش: (وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وإن له لطلاوة وإن عليه لحلاوة). والطلاوة هي من أثر الكلام البليغ في الأذن، والحلاوة من وقعه في العقل القلب والنفس.

3-الوجه الثالث، أن صاحب الكلام هو رب العلم والكلم ورب كل شيء: يتكامل الإعجاز هنا من الكلام إلى المكلِّم، فلا بد من أن تجد في أي كتاب بعض التناقض، دليلاً على أن المؤلف مخلوق وهو بالطبع عرضة للخطأ والنسيان والشطط، بينما نجد القرآن الكريم كلاً متكاملاً، دليلاً على علو شأن المكلِّم جلّ جلاله، وعلمِه بعباده وبميولهم وبنفوسهم، يخاطبهم جميعا بكلام واحد فيفهم كل منهم ما يعنيه. والمكلم الواحد عزّ شأنه يتحدى جميع الخلق بقوله في سورة الإسراء: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا {88}.

والتحدي هنا ليس تحدٍ بين أقران متنافسين، بل تحدي الجبار للصغار، والكامل القدرة للعاجزين، والتام العلم لكبار العلماء والدارسين.

4-الوجه الرابع، شمول القرآن على جميع البراهين والأدلة على توحيد الألوهية والربوبية:

من منا أو ممن كان قبلنا يعرف من هو الله تعالى من قبل أن ينعم الله علينا بالنبي الكريم والكتاب العظيم؟ من يستطيع أن ينكر أن القرآن الكريم هو كتاب التوحيد الأوحد الذي به يمكن للساعي إلى الحقيقة أن يجد الطريق إلى الله، وأن يفهم معنى التوحيد أن لا إله إلا الله ومعنى الربوبية أن لا رب سواه. من منا كان يعرف صفات الله العلية وأسماءه الحسنى وكلماته التامة لولا القرآن الكريم . من منا يعرف كيف يخاطب العظمة الإلهية بالعبارات اللائقة لولا العبارات التي أوردها القرآن الكريم بحق الله العليّ العظيم؟ وهذا إعجاز خفي على الناس ظاهراً، مع أن الناس إذا ناجت ربها لا تناجيه إلا كما علمها هو ولا تدعوه إلا بالتعابير التي أمرها أن تدعوه بها، قال تعالى في سورة الأعراف: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} {180}. ومن ذلك ما تعلمناه من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لربنا جلّ وعلا: ” سبحانك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك”.

5- الوجه الخامس، كتاب الحكمة الكامل الذي لا ينضب:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: وَهُوَ الذّكْرُ الْحَكِيمُ،(فمنه ينهل الحكماء ويستقون النصح والإرشاد الذي يوجهون به الناس). وقال: وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ،(إذ جعله الله تعالى مقياساً لمن نوى الاستقامة فحدد به ما يصح ولا يصح، وما ينبغي وما يرد، وما يرفع وما يخفض وما يهدي وما يضل)..وقال فيه أيضاً: وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، (فمنه يتعلمون ومن تشريعه يستقون وبه يلوذون وإليه يعودون).

هو كتابٌ يستجمع العبد منه كلَّه، ويستلهم رشده، ويسترد صوابه، ويميز به ما بين الحق والباطل، والعدل والطغيان، والرشد والغي. قال صلى الله عليه وسلم فيه: هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتّى قالُوا {إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنَا عَجَبَاً يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ}.

6- الوجه السادس، هو كتاب حق وجد: فقد خلق الله تعالى الكون بالحق، ولغايةٍ هي أخطر ما سمع بها أحد من الخلق ، من عقَلها فاز وسعِد ومن أغفلها خاب وخسر، قال تعالى في سورة الدخان: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون.

إذ إن أصل وجود الخلق مسألة لا لهو فيها ولا مزاح، إنها مسألة التعرف على الخالق والاعتراف به ربا، وأن منه البداية وإليه النهاية، وأن الله حق والقرآن حق والنبيين حق والرسل حق وأن الجنة حق والنار حق والحساب حق والميزان حق والصراط حق، وأن الموت حق وسؤال القبر حق وأن الله يبعث من في القبور، فأين الهزل في ما ذكرنا ولئن فرّط العبد في بعض وقته وماله وجسده فهل يفرّط في مصيره ومآله؟

كل هذه العبر من الحق تعالى، أنزلها في كتابه الحق، وقال عنه في سورة الطارق: {إنه لقول فصل وما هو بالهزل}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: “وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله…”.

أين الهزل والمحاباة ما دام الله تعالى يتحدث عن التزام نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالدعوة وبالقرآن بالحذافير، فيقول في سورة الحاقة: تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ {43} وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ {44} لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ {45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ {46}.

فمن وقّر كتاب الله فإنما وقّر الله في قلبه وعقله ولسانه، ومن أدار ظهره للكتاب الكريم فكأنما قطع ما بينه وبين الله من صلة، ولذلك سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبل الله المتين.

7-الوجه السابع، صدق القرآن وصراحته اللامتناهية:

كاشف الله تعالى الناس بما كان يجري من خصوصيات مع النبي صلى الله عليه وسلم، سواء بينه وبين بعض وجهاء قريش ثم بينه وبين بعض أزواجه، فصرّح أو عرّض حتى أنه هدد النبي مرة أن لا يلين مع المشركين من قومه فقال له في سورة الإسراء: وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً {74} إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا {75}. كما أخبر بما أخفى رسول الله في نفسه لجهة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها فقال تعالى في سورة الأحزاب: وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه{37}.

ناهيك عن ذكره بكل صراحة ودقة موقف إبليس في اللحظة التي خلق الله تعالى فيها آدم عليه السلام حين قال اللعين كما جاء في سورة الإسراء: قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا {61} قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً {62} .

وما ذلك إلا ليعلم الناس أن هذا الكتاب لو كان من عند غير الله لغيِّب منه الكثير من الوقائع، فكان القرآن في منتهى الصدق والصراحة في وصف المواقف والأحداث، وحتى الأحاسيس والمشاعر، قال تعالى: ومن أصدق من الله قيلا؟ (النساء 122).}.

كانت هذه بعض الوجوه اللطيفة في إعجاز القرآن حروفاً ومعانٍ، والتي لا يمكن حصرها جميعاً ولو سألنا الذين أحبوا القرآن وألفوه، لوجدنا أن لكل منهم مع القرآن حال خاص به هو بحد ذاته إعجاز، لو أراد أن يشرحه للناس لعجز عن التعبير والشرح، حتى يوقن أنها هدية ربانية خاصة لعبد مخصوص أخلص وتخلص فكانت هذه المعاني نفحة تشجيع على متابعة السعي وإشارة تأكيد على وجود الصلة.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وذهاب همومنا وجلاء أحزاننا، والحمد لله رب العالمين.