بلاغته صلى الله عليه وسلم

بقلم أ.ع.

 

استعرضنا في العدد الماضي بعضاً من جوامع كلم رسول الله وإعجازه في التشبيه المؤثر في أعماق النفس، ونتطرق في هذا العدد إلى ملكته صلى الله عليه وسلم في الاستعارة والطباق والجناس، دليلاً ساطعاً على أن ملكة اللغة عند النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت هبة ربانية لا ينازعه فيها أحد من فطاحل اللغة.

في الاستعارة:  مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «جنة الرجل دارُه»، فحوّل الدار إلى جنة يسعد فيها، و«الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، وقوله: «المؤمن مرآة أخيه» كمثل مقولة: من جالس جانس، و«داووا مرضاكم بالصدقة»، فجعل العطاء دواءً ناجعاً، وكذلك الإصغاء لذوي الحاجة بقوله:«الاستماع إلى الملهوف صدقة»، و«ملعون من هدم بنيان الرّبّ»، يعني من قتل نفساً، و«الخمر مفتاح كل شر» لفقد المرء رشده وسيطرته على نفسه، و«من ضحك ضحكة مجّ من العقل مجة»، أي خسر بتلهيه فرصة التفكر والتدبر، و«الشتاء ربيع المؤمن» مشبهاً الطاعات بالربيع الذي يبهج النفس، و«اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» .

في الطباق:  

والطباق من أركان البلاغة في اللغة العربية، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «حفّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»، وقوله: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»،  و«حياة السخي بعد موته»، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها»، و«أنظروا إلى من تحتكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم». ومما يسترعي الانتباه والتفكر والاعتبار قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنكم لتقلّون عند الفزع، وتكثرون عند الطمع» .

في الجناس:

وفي تقارب اللفظ مع اختلاف المعنى، قوله عليه الصلاة والسلام: «الظلم ظلمات يوم القيامة»، وقوله: «إن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيها»، و«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وكثرة تشديده على حفظ الأمانة بعبارات مختلفة: «المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم»، و«لا إيمان لمن لا أمانة له»[1].

مما ورد يظهر لنا أن الإعجاز البلاغي النبوي هو في انتقاء الكلمة الأنسب وسبكها في جملة بليغة المبنى وعميقة المعنى في آن معاً ، ليست بالسجع وليست من الشعر، ومع ذلك فوقعها جاذب يطرق الأسماع ويلفت الانتباه، رقيق ينساب إلى النفوس ويلقح العقول، عذب تردده الألسن وتعتز بتناقله الشفاه.

 وقد يرى بعض اللغويين أن عدداً من أدباء اللغة العربية قديماً وحديثاً قد أتوا بما يشبه كلام النبوة، وربما أتى بعضهم أحياناً بعبارة أبلغ، ولكن الأمر لا يتعلق بتفوق عبارة أو عبارتين يمضي الشاعر والأديب زمناً لنظمهما، بل بهذا السيل المتدفق المتتالي من كلام النبوة المعجز الذي لا يخالطه عيب أو ضعف أو خلل. ولو قدر لنا سماع كل كلام الأديب، أي أديب، مع الناس ومع المقربين لاكتشفنا أن عامة كلامه لا يختلف عن كلام العامة من الناس، على عكس كلام النبوة الخاص والعام والذي لا يخلّ بالبلاغة ولا يخلو من حكمة.



[1]  الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد(ت 429هـ)، الإعجاز والإيجاز، مكتبة القرآن، القاهرة.