بيان إنعام الله عليه بقوة السمع والبصر

بقلم د. أ.ع.

النبي رجل من البشر، وتميزه يعود إلى أمرين: ما ينعم الله تعالى على عبده من الصفات والقدرات، وما يكتسبه النبي من رقة في الإحساس وصفاء في النفس نتيجة تعبده وارتقاء روحه، مما يكسبه قوة في السمع والبصر، فيذلل الله له خوارق الطبيعة ويسخر له جنود السماوات والأرض.

فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، روى الترمذي وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: ” إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ “.

وفي حديث آخر أسمع الله تعالى نبيه المصطفى صوت باب من السماء يفتح، فقد روى الطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، وجبريل عليه السلام على الصفا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا جبريل ، والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق ، ولا كف من سويق (دقيق) » ، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمر الله القيامة أن تقوم ؟ » قال : لا، ولكن أمر الله إسرافيل ، فنزل إليك حين سمع كلامك ، فأتاه إسرافيل ، فقال : إن الله سمع ما ذكرت، فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض ، وأمرني أن يعرضن عليك إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمردا ، وياقوتا ، وذهبا ، وفضة فعلت ، فإن شئت نبيا ملكا ، وإن شئت نبيا عبدا ؟ ، فأومأ (أشار) إليه جبريل أن تواضع ، فقال : « بل نبيا عبدا »”.

وروى الحافظ الهيثمي عزاه للطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتاً هاله، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما هذا الصوت يا جبريل؟”. فقال: هذه صخرة هوت من شفير جهنم من سبعين عاماً، فهذا حين بلغت قعرها، فأحب الله أن أسمعك صوتها. فما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً ملء فيه حتى قبضه الله.

ومن ذلك سماعه صلى الله عليه وسلم لعذاب المشركين في قبورهم، فقد روى أحمد وابو داود عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل نخلا لبني النجار فسمع صوتا ففزع فقال: “من أصحاب هذه القبور؟ قالوا: يا نبي الله ناس ماتوا في الجاهلية، قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة الدجال. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فسأله: ما كنت تعبد؟ فإنِ الله هداه قال: كنت أعبد الله قال فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فيقول هو عبد الله ورسوله، قال: فما يسأل عن شيء بعدها، قال: فينطلق به إلى بيت كان له في النار فيقال: هذا بيتك كان في النار ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك به بيتا في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي فيقال له: اسكن؛ وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعه الخلق غير الثقلين.

وعن أنس أيضاً: ” أَنّ النّبـيّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ صَوْتاً مِنْ قَبْرٍ فَقَالَ: مَتَى مَاتَ هَذَا؟ قَالُوا مَاتَ في الْجَاهِلِيّةِ فَسُرّ بِذَلِكَ وَقَالَ: لَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ”. خشي صلى الله عليه وسلم أن يُعرِض الناس عن دفن موتاهم فيما لو سمعوا صوت عذاب العاصين في قبورهم، كما سمعهم هو.

وأخرج البخاري وروى مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال:

مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة، أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يعذبان وما يعذبان في كبير”. ثم قال: “بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة”. ثم دعا بجريدة (من نخل)، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: “لعله أن يخفف عنهما إلى أن ييبسا”.

وأما قوة بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت أخبارها في عدة أحاديث وأيّدها المولى تعالى بقوله في سورة النجم: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى،  لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}.

فكان يرى الملائكة الكرام في أشكال مختلفة، حين يزورونه وحين يكتبون ما بدر من بعض الخلق، فقد روى النسائي والترمذي والطبراني عن رافع قال: قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فقال من المتكلم في الصلاة فلم يكلمه أحد ثم قالها الثانية من المتكلم في الصلاة فقال رفاعة بن رافع بن عفراء أنا يا رسول الله قال كيف قلت قال قلت الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها.

ولم يقتصر بصره على رؤية الملائكة بل أنعم الله عليه برؤية ملكوت الله ومنه الأرض من أطرافها، فكان يصف بعض مناطقها، روى مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود، عن ثوبان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى زوى لي الأرض. حتى رأيت مشارقها ومغاربها”.

كما أنعم الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بالرؤية من كل الجهات، فقد روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: صَلّى بِنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً. ثُمّ انْصَرَفَ فَقَالَ: “يَا فُلاَنُ أَلاَ تُحْسِنُ صَلاَتَكَ؟ أَلاَ يَنْظُرُ الْمُصَلّي إِذَا صَلّى كَيْفَ يُصَلّي؟ فَإِنّمَا يُصَلّي لِنَفْسِهِ. إِنّي وَالله لأبْصِرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مِنَ بَيْنَ يَدَيّ”.

وقال صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لبعض من صلى خلفه فقد روى مسلم وأحمد والنسائي عن أنس قال:  صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فقال: “إني إمامكم فلا تبادروني بالركوع ولا السجود ولا القيام ولا الانصراف فإني أراكم من أمامي ومن خلفي”، ثم قال: “والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا”، قلنا: ما رأيت يا رسول الله؟ قال: “الجنة والنار”.

ولعل بعض الناس لا يستسيغ مثل هذه الحقائق، لكنها تهون أمام تلقي الأنبياء الوحي من الله تعالى، فهذه ميزات الرسل ولولا هذه الصلات لما تمكنوا من تلقي الرسالة وإيصالها إلى الناس، ولما وجد الناس فيهم ما يميزهم عن سائر الخلق ، وفي النهاية نستعين بقول الله تعالى في سورة الكهف: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ… }. صدق الله العظيم.