تحمل الأذى والصعاب في سبيل الله

أ.ع.

 

” لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخِفتُ في الله وما يخاف أحد “. (حديث شريف)[1].

انطلقت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى بصعوبة بالغة وببطء شديد وعانت من مقاومة عنيدة، كما حصل مع سائر الأنبياء والمرسلين. ولو شاء الله تعالى لجعل طريقها سهلة هينة، لكنه درس لكل من سار على درب  الصلاح والهداية.

 وكان أول من آمن به الصديق المقرب أبو بكر والزوجة المخلصة الصالحة خديجة والفتى القريب الربيب المقرب علي رضي الله عنهم أجمعين ثم بدأت المصاعب تزداد كلما ازداد انتشار الدعوة ولما أمِر صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين كان لا بد له من أقرباء أعداء وخصوم ألداء، ومنهم عمه أبو لهب وأم جميل زوجة عمه، تضع الشوك والحطب في طريق النبي وتمشي بالنميمة كي يكرهه من لا يعرفه وتحرض الناس عليه، كذلك كان زوجها وهو عم النبي الذي كان يفترض أن يؤيد ابن أخيه وهو الذي يعرف صدقه وحسن خلقه وأمانته، لكن الحسد أعماه والغيرة أفسدت قلبه، فصده ووقف في وجهه قائلاً له:

(تباً لك ألهذا دعوتنا؟)، أي خِبت وخسرت وهلكت، فأنزل الله تعالى سورة المسد التي شهّرت بأبي لهب وبزوجته. وكان يمشي خلف النبي في المواسم ليجعله أضحوكة بين الناس وليثني الناس عن الإنصات إليه، قال طارق بن عبدالله المحاربي: إني بسوق ذي المجاز، إذ أنا بإنسان يقول: ” يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا “، وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: (يا أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه). فقلت من هذا؟ فقالوا: محمد، زعم أنه نبي. وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب.

وزاد في عذاب النبي صلى الله عليه وسلم أن أمَر عمُّه ولديه بتطليق زوجتيهما وهما ابنتي النبي رغبة في جعل الحياة في بيت النبي لا تطاق[2].

وعن حسد أبي جهل، روى الأخنس بن شريق أنه (أتى أبا جهل، فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان. قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه)[3] .

كما اتُهِم النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والكذب وبإتقان الشعر وبالكهانة لكي ينصرف الناس عنه، فصبر وإذا بالدعاية السيئة تنقلب على أصحابها، فأقبل الناس عليه للتحقق مما بلغهم عنه فتعلقوا بشخصه وبكلامه وشغفوا بكلام ربه فآمنوا.

وكان جاراه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل يطرحان قمامتهما أمام باب النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج النبي ليجدها أمام منزله فيقول:”يا بني عبد مناف!أي جوار هذا؟”. كما بصق عقبة مرة في وجه النبي.

وكان ألمه صلى الله عليه وسلم مضاعفاً لتحمله مسؤولية جميع ما أوذي به أصحابه فكان يتأذى  بذلك كثيراً لكونه بسببه. فقد عُذِّب فقراء المسلمين وعبيدهم، ومنهم آل ياسر وبلال وخباب بن الأرت وغيرهم كثير، لكي يعودوا إلى الشرك فرفض أكثرهم وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ويوقفونهم في حر شمس الصحراء، ويصلبون بعضهم ويطأونهم بالأقدام والحجارة الثقيلة، وقتل كثير منهم دون أن يثنيهم التعذيب والتهديد عن إيمانهم. ولم يتوان الأهل المشركون عن تعذيب من أسلم من أولادهم كمصعب بن عمير والزبير بن العوام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالصبر والتحمل. وكان الله تعالى يواسي نبيه ويأمره هو أيضاً بالصبر وتحمل الأذى ويعده بالفرج والنصر لاحقاً بقوله: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين}.(سورة الأنعام33-34).

ومرة كان يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ومعه أبو جهل وأمية بن خلف، فوضع عقبة ثوبه في عنق النبي فخنقه فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال: لهم ” أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم العقاب عاجلا “، فأخذتهم الرعدة من هيبة النبي وثقته بعقيدته. ورمى أبو جهل بن هشام  رسول الله بشوك ورق النخل على ظهره وهو ساجد ، فأنزل الله عز وجل: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى}  [4].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مرة عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بكرش ذبيحة بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعه على ظهره بين كتفيه، فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رأسه ثم قال: (اللهم عليك بقريش) ثلاث مرات، فشق عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى: (اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط). ولم يسم النبي أحداً منهم إلا خرّ صريعاً في معركة بدر [5].

وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن تقف له جماعة من المشركين يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار قال تعالى فيهم:”وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه” حتى إذا تفرقوا راح كل منهم يسترق السمع وينصت لتلاوة النبي والصحابة بعيداً عن رفاقه.

ولم يكن صلى الله عليه وسلم خنوعاً ولا خوافاً روى ابن اسحق أن أشراف مكة اجتمعوا في حجر إسماعيل بالكعبة،( فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وغير ديننا، وفرق جماعتنا. فبينما هم في ذلك إذ أقبل، فاستلم الركن، فلما مر بهم غمزوه، وذكر أنه قال لهم في الثالثة ” لقد جئتكم بالذبح ” وأنهم قالوا له: يا أبا القاسم ما كنت جاهلا، فانصرف راشدا، فانصرف. فلما كان من الغد اجتمعوا فقالوا: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع فقالوا: قوموا إليه وثبة رجل واحد، قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ثيابه، وقام أبو بكر دونه وهو يبكي فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه).

وكان صلى الله عليه وسلم قد أنفق ثروته وثروتي زوجته خديجة وأبي بكر على الدعوة حتى وصل مع أصحابه إلى درجة الفقر والإملاق دون أن يكل أو يمل، وفي الحديث الشريف: “لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال”. وكم كان حزنه عميقاً ومتكرراً  كلما كان يواسي  المعذبين أو يواري في التراب شهيداً من المسلمين أو أحداً من أهله صلى الله عليه وسلم.

وقد قيل أن شدة البلاء مرهونة بكثرة الأتباع وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء اتباعاً، فكلما أوذي  أكثر كان الدين الذي يحمله أكمل فكيف إذا أرسل النبي إلى الناس كافة ؟

وعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: ” كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.

قال الله تعالى:[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {214}]. (سورة البقرة). وقال أيضاً:

 “بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ألم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3} (سورة العنكبوت).

ومن عظيم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه بدلاً من أن يحقد على قومه كان يحزن ويخاف عليهم من غضب الله حتى خفف الله عنه بهذه الآيات التالية:

[فلا تذهب نفسك عليهم حسرات] (سورة فاطر- 8) وقال: [ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا] (سورة الكهف- 6). وقوله: [ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين].(الشعراء-3). وقوله تعالى: [ ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون]، (سورة النمل-70).

وتصاعد العذاب والأذى إلى درجة إخراج  بني عبد المطلب إلى شعب الجبل، من أسلم منهم ومن دافع عن رسول الله ، ومنعوا من البيع والشراء وعزلوا حتى أكلوا الشوك، والصوف المبلول بدم الخراف، وسمع أنين مرضاهم وبكاء أطفالهم، طوال ثلاث سنوات، خرجوا منها منهكين فقراء ومرضى، ولم يعش لا أبو طالب عم النبي ولا زوجته خديجة طويلاً بعد ذلك. 

والخلاصة أن بناء الأمم وتأسيس الإيمان مكلف للغاية، ولا يكون بالتمني والآمال بلا أسباب ولا أعمال. قال الله تعالى:  فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ {195} لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ {196} مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {197} لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ {198}.(آل عمران).



[1] أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه  عن أنس.

[2] أخرجه الطبراني عن قتادة.

[3]  أخرجه ابن إسحق والبيهقي في الدلائل، عن الزهري.

[4]  أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس.

[5]  رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود.