رفقه صلى الله عليه وسلم بأمته

بقلم أ.ع.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، يقول الله تعالى في سورة التوبة: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. وسنعرض في هذا العدد بعضاً مما كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحمة وفي أعماله من رأفة تجاه أمته عامة والمؤمنين بصورة خاصة، مصداقاً لكلام الله الكريم.

فيروي الصحابي جَابِرٍ بن عبد الله رضي الله عنه بعد أن عجز عن ترويض بعيره في إحدى الغزوات، حيث برك قَالَ: (… وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِنَا، فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَيُزْجِي الضَّعِيفَ، وَيُرْدِفُ، وَيَدْعُو لَهُمْ، فَانْتَهَى إِلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ: يَالَهْفَ أُمَّتَاهُ وَمَا زَالَ لَنَا نَاضِحُ سَوْءٍ فَقَالَ: “مَنْ هَذَا؟” قُلْتُ: أَنَا جَابِرٌ، بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “مَا شَأْنُكَ؟” قُلْتُ: أَعْيَى نَاضِحِي،[أي أتعبني وعجزت عنه]، فَقَالَ: “أَمَعَكَ عَصًا؟” قُلْتُ: نَعَمْ، فَضَرَبَهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ، ثُمَّ أَنَاخَهُ، وَوَطِئَ عَلَى ذِرَاعِهِ، وَقَالَ: “ارْكَبْ”، فَرَكِبْتُ، فَسَايَرْتُهُ، فَجَعَلَ جَمَلِي يَسْبِقْهُ، فَاسْتَغْفَرَ لِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، فَقَالَ لِي: “مَا [كم] تَرَكَ عَبْدُ اللَّهِ مِنَ الْوَلَدِ؟” [يَعْنِي أَبَاهُ وكان قد استشهد في غزوة أحد]، قُلْتُ سَبْعَ نِسْوَةٍ،[ أي أمه وأخواته]، قَالَ: “أَتْرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا؟” قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: “فَإِذَا قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ فَقَاطِعْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَإِذَا حَضَرَ جِدَادُ نَخْلِكُمْ فَآذِنِّي” [أي أعلمني]، وَقَالَ لِي: “هَلْ تَزَوَّجْتَ؟” قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: “مِمَّنْ؟” قُلْتُ: بِفُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ، بِأَيِّمٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: “فَهَلَّا فَتَاةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟” قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّ عِنْدِي نِسْوَةٌ خُرْقٌ، يَعْنِي أَخَوَاتِهِ، فَكَرِهْتُ أَنْ آتِيَهُنَّ بِامْرَأَةٍ خَرْقَاءَ، فَقُلْتُ: هَذِهِ أَجْمَعُ لِأَمْرِي، قَالَ: “فَقَدْ أَصَبْتَ وَرَشَدْتَ”، فَقَالَ: “بِكُمِ اشْتَرَيْتَ جَمَلَكَ؟” قُلْتُ: بِخَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: “قَدْ أَخَذْنَاهُ”، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ فَقَالَ: “يَا بِلَالُ أَعْطِهِ خَمْسَ أَوْرَاقٍ مِنْ ذَهَبٍ، يَسْتَعِينُ بِهَا فِي دَيْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَزِدْهُ ثَلَاثًا وَارْدُدْ عَلَيْهِ جَمَلَهُ”، قَالَ: “هَلْ قَاطَعْتَ غُرَمَاءَ عَبْدِ اللَّهِ؟”، قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “أَتَرَكَ وَفَاءً؟” [ هل ترك خلفه مالاً يفي به دينه] قُلْتُ: لَا، قَالَ: “لَا عَلَيْكَ، إِذَا حَضَرَ جِدَادُ نَخْلِكُمْ فَآذِنِّي”، فَآذَنْتُهُ، فَجَاءَ فَدَعَا لَنَا فَاسْتَوْفَى كُلُّ غَرِيمٍ مَا كَانَ يَطْلُبُ تَمْرًا، وَفَاءً وَبَقِيَ لَنَا مَا كُنَّا نَجِدُ وَأَكْثَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ارْفَعُوا وَلَا تَكِيلُوا”، فَرَفَعْنَا، فَأَكَلْنَا مِنْهُ زَمَانًا).

ولم يكن خير البرية صلى الله عليه وسلم لينسى فقراء المسلمين من برٍ أو صدقة فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: (وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِيَدَيَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَمَرَّ بِي أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا أَسْأَلُهُ عَنْهَا إِلَّا لِيَسْتَتْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي، وَمَا فِي وَجْهِي، فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: “أَبَا هِرٍّ الْحَقْ”، فَاتَّبَعْتُهُ، فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَتُ، فَأَذِنَ لِي، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: “أَنَّى لَكُمْ هَذَا اللَّبَنُ؟” قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ فَقَالَ: “يَا أَبَا هِرٍّ، انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ لِي”. قَالَ: فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ، وَأَهْلِ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ، وَلَا مَالٍ، إِذَا جَاءَتْهُ صَدَّقَةٌ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَرْزَأْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَأَصَابَ مِنْهَا، قَالَ: فَأَحْزَنَنِي إِرْسَالُهُ إِيَّايَ، وَقُلْتُ: أَرْجُو أَنْ أَشْرَبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَغَذَّى بِهَا، فَمَا يُغْنِي عَنِّي هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَأَنَا الرَّسُولُ فَإِذَا جَاءُوا أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعَاطِيهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بُدٌّ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأُذِنَ لَهُمْ فَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، وَقَالَ: ” أَبَا هِرٍّ”، قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “قُمْ فَأَعْطِهِمْ”، فَآخُذَ الْقَدَحَ فَأُعْطِي الرَّجُلَ حَتَّى يُرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَيَّ حَتَّى رَوِيَ جَمِيعُ الْقَوْمِ فَانْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ، فَوَضَعَهُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: “اقْعُدْ”، فَقَعَدْتُ، فَشَرِبْتُ، وَقَالَ: “اشْرَبْ”، فَمَا زَالَ يَقُولُ: اشْرَبْ، اشْرَبْ، حَتَّى قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ: “فَأَرِنِي”، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ الْإِنَاءَ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَشَرِبَ مِنْهُ).

ومن رأفته بالمسلمين وحرصه على أن يعوا ما يقول ويحفظوا عنه ذلك أنه كان إذا حدث كرر الحديث كي يعيه الناس ويفقهوه، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَدَّثَ بِالْحَدِيثِ، أَوْ سَأَلَ عَنِ الْأَمْرِ، كَرَّرَهُ ثَلَاثًا، لِيُفْهِمَ وَيُفْهَمَ عَنْهُ»

ومن رأفته بالمسلمين قال صلى الله عليه وسلم:”لولا أن أشق الى أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة”.

وكان شديد اليقظة على ما يصلح الناس وإذا شدد على نفسه بالعبادة والطاعات كان يرأف بالمسلمين ولا يحملهم ما لا يطيقون، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: (كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرٌ يَفْرِشُهُ بِالنَّهَارِ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ، حَجَرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا قَالَ: فَتَتَبَّعَ لَهُ رِجَالٌ، فَصَلُّوا بِصَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَ لَيْلَةً وَقَدْ كَثُرُوا وَرَاءَهُ، فَقَالَ: “أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ خَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا دُووِمَ عَلَيْهَا وَإِنْ قَلَّ”. ثُمَّ قَالَ: “مَا مَنَعَنِي مِنْ أَنْ أَصَلِّيَ هَهُنَا، إِلَّا أَنَّى أَخْشَى أَنْ يَنْزِلَ عَلَيَّ شَيْءٌ لَا تُطِيقُونَهُ”).

وهذه الأحاديث كلها في صحيح البخاري، ولما قام صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليلاً يصلي بهم في رمضان خشي أن يفرض عليهم فترك الصلاة بهم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد فصلى بصلاته الناس ثم صلى الثانية فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج رسول الله إليهم فلما أصبح قال: “رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم”، وذلك في رمضان).

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم)، ولما واصل صلى الله عليه وسلم في صيامه وعلم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك واصلوا معه فنهاهم عن الوصال إشفاقا عليهم قالوا: (فإنك تواصل)، قال: “اني لست كهيئتكم”.

ولما رجع من غزوة حنين التف حوله الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة [ألجأوه إلى شجرة شوكية]، فخُطِف رداؤه فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: “أعطوني ردائي فلو كان لي عدد هذه العضاة [الأغصان الصغيرة] نِعما لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا..”.

ومن رأفته بالخدم والعبيد كان صلى الله عليه وسلم يساعدهم في طرقات المدينة على الحمل وسائر الأعمال، حتى اعتادوا اللجوء إليه ليعينهم، فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال:(كانت الأمة[ الجارية] من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت).

ولم يكن يستثني من خدمة العبيد والإماء أحد حتى المعوقين منهم، روى مسلم في صحيحه عن أنس، رضي الله عنه، (أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: “يا أم فلان أنظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك”، فخلا معها [رافقها] في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها).

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف ولا لم صنعت؟ ولا ألا صنعت؟ ).

فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أعربيا بال في طائفة المسجد فثار إليه الناس ليقعوا فيه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دعوه واهريقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ماشاء”.

وعن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم قال: “إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه”.

قال الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، فلم يحصل لأحد من البشر ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الاتصاف بالرحمة والرفق لا يقاربه في ذلك أحد ولا يدانيه. وفقنا الله ولإياكم للأتصاف بما نقدر عليه من الرحمة والرأفة إقتداءً بهذا النبي العظيم.