علاقته صلى الله عليه وسلم بربه جلّ وعلا

بقلم أ.ع.

يعرف المؤمنون سواء بالفطرة أو بالتكسب أن من يعرف الله أكثر يكثر من التعبد والتقرب ويصبح أكثر حرصاً على المداومة والالتزام. فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعرف الناس بالله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: ”  أَمَا وَاَللَّهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَشَدُّكُمْ خَشْيَةً لَهُ ” [1]

وعن علقمة ، قال : ( سألت عائشة رضي الله عنها : كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل كان يخص شيئا من الأيام ؟ قالت : لا ، كان عمله ديمة ، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع ؟ [2] ). والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مستمراً في العبادة، محافظاً عليها على تنوعها، دونما تقطع أو ملل.

ومن عاش في القرآن وتعبد به فتحت مسامع قلبه ففهم ما لم يفهمه آخرون ورق قلبه  فكيف بمن أنزل القرآن على قلبه؟ فعن عبد الله بن مسعود ، قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اقرأ علي”  ، فقلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : فقرأت سورة النساء فلما بلغت : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }[3]  قال : “حسبك ” (أي توقف) ، فالتفت فإذا عيناه تذرفان)،[4] صلى الله عليه وسلم.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى وحده غالباً ما يبكي تأثراً من كلام الله تعالى رهبة أو رحمة، تهيباً أو حباً ، خشية أو خضوعاً.

فعن مطرف يعني ابن عبد الله بن الشخير عن أبيه ، قال : (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل). وفي رواية أخرى: (وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء).[5]

ولم يذكر التاريخ مثل علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بربه، لا لنبي ولا لولي، فهو مراقب لله تعالى في السراء والضراء راضٍ بما يجري له موقن أن الله مطلع عليه وله في كل ما يحصل له شأن وغاية.

وها هو لدى عودته من الطائف وقد أوذي وأهين يتوجه إلى الله تعالى ويقول: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك، أو تنزل علي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك[6].”

وفي الوقت الذي ينام فيه المجاهدون استعداداً للمعركة تجد النبي صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي ويتوسل إلى ربه: فعن علي قال:( لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا أحد إلا نائم إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو ويبكي حتى أصبح…).[7]

وفي صباح المعركة يكون الذي سهر ليله أشدهم وأشجعهم صلى الله عليه وسلم: عن علي ، قال : « لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أشد الناس بأسا » ، وفي رواية : « وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه »[8].

وتبلغ قمة الوصال والرضا ليس عند النصر ولكن حتى في الهزيمة وبدلاً من التأوّه والتألّم على رغم الجراح والدماء وكثرة الشهداء وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقب غزوة أحد، وفور انكفاء المشركين، وقفة الراضي العابد الواثق بربه ويدعو الله تعالى ويقول لأصحابه: “استووا حتى أثني على ربي”. فصاروا خلفه صفوفاً فقال: “اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لما أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف. اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت منا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم زجرك وعذابك…”.

علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بربه تعالى قدوة ومثال، وهنيئاً لمن أدرك في عبادته شيئاً من هذا القبيل.



[1]   شرح النووي على مسلم ، ج 4 / ص 94.

[2]  رواه مسلم في الصحيح ، عن زهير وإسحاق ، عن جرير وأخرجه البخاري من وجه آخر ، عن منصور.

[3]  سورة النساء آية 41.

[4]  رواه البخاري في الصحيح ، عن الفريابي.

[5]  دلائل النبوة للبيهقي ، ج 1 ، ص 356-357.

[6]  أخرجه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن جعفر

[7]  أخرجه الطبراني وأحمد والبيهقي في الدلائل.

[8]  دلائل النبوة للبيهقي ،ج 1 ، ص 303.