مايكل هارت

بقلم أ.ع.

 

أنقطع عن الكتابة في هذا العدد من مجلة :الإعجاز” ، تاركاً الكلمة لمفكرٍ من غير المسلمين درس وتخصص، وبحث وألّف واستعرض كل الشخصيات التي مرت على الإنسانية منذ أقدم العصور وحتى سنة ظهور الكتاب عام 1978م، كان همه أن يبحث عن أولئك الذين قدموا للإنسانية خدمات جلّى فكراً أو كشفاً أو اختراعاً أو قاموا بأعمال أثرت في تاريخ البشرية . هذا المفكر والباحث هو الدكتور الأميركي” مايكل هارت ” عالم رياضيات وحقوق وفلك، وكتابه الذي نحن بصدده سماه “المائة الأوائل” وقد تجرأ بأن رتب أفضل مئة شخصية دون مداهنة لأحد ودون إيعاز أو تأثير من أحد، بعد أن وضع 14معياراً لاختيار كل شخصية.[1]

فوجيء المؤلف بعد أن وضع الاعتبارت وملأ الاستمارات بأن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم جمع العلامة الأعلى، مما اضطره لأن يبرر لقرائه بأن النتيجة جاءت من اعتبارات ومعايير أعدت مسبقاً وقبل التمكن من معرفة النتائج أو التنبؤ بها. ومن الملفت أن لائحة ” المائة الأوائل” لم تتضمن سوى اثنين من المسلمين هما رسول الله صلى الله عليه وسلم في رأس القائمة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه في رأس قائمة الخمسين الثانية.أما العشرة الأوائل فهم على التوالي:1- محمد صلى الله عليه وسلم.2-العالم إسحق نيوتن.3-المسيح عليه السلام.4-بوذا.5- كونفوشيوس.6-بولس الرسول. 7-تساي لون(مخترع الورق). 8- غوتنبرغ(مخترع الطباعة). 9-كولومبوس. 10- أينشتاين…

وفيما يلي بعض ما أورده الكاتب عن خير خلق الله صلى الله عليه وسلم:

“إن اختياري محمداً ليكون في رأس قائمة أهم رجال التاريخ قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي”.

لقد أسس محمد(ص) ونشر أحد أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام. ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرناً تقريباً على وفاته، فإن تأثيره لا يزال قوياً وعارماً.

إن أكثر الأشخاص الذين سيقابلهم القاريء في هذا الكتاب، كان لهم ميزات فائقة بكونهم قد ولدوا ودرجوا في مراكز حضارية، وترعرعوا في أحضان أمم ذات سمات ثقافية وسياسية واجتماعية بالغة الأهمية.

أما محمد (ص) فقد ولد عام 570م في مدينة مكة جنوبي شبه الجزيرة العربية التي كانت في ذلك الوقت منطقة نائية عن الحضارة وبعيدة عن المراكز الحيوية، سواء كانت تجارية أو فنية أو علمية  في العالم. ولما كان قد ذاق مرارة اليتم وهو في السادسة من العمر، فإنه قد ربّي في محيط متواضع وعرف عنه أنه كان أميّاً. وقد تحسنت حالته الاقتصادية عندما تزوج وهو في الخامسة والعشرين من أرملة ثرية.

كان معظم العرب وثنيين… يعبدون آلهة واصناماً عديدة… ولكن محمداً بدأ ينادي بوجود إله واحد قاهر قادر يسيطر على الكون بأسره. وعندما بلغ الأربعين جاءه الوحي الذي أخبره أن الله قد اختاره لنشر الدين القويم.

بدأ يدعو أصدقاءه المقربين طيلة ثلاث سنوات وحوالي عام 613م بدأ بالدعوة العلنية…ولما ازداد عدد أتباعه شعرت قبائل قريش بالخطر واعتبرته مهدداً لنفوذها مما اضطره للهجرة عام 622م من مكة إلى المدينة حيث رحب به أهلها وقدموا له الإجلال والتأييد وأصبح له نفوذ سياسي لا بأس به…حيث كثر أتباعه وصار (الحاكم المطلق!)، …ثم حصلت سلسلة معارك بين مكة والمدينة إنتهت بانتصار محمد (ص) الساحق وفتحه مكة والرجوع إليها عام 630م. وشهدت السنتان ونيف المتبقيتان من عمره دخول أعداد ضخمة من القبائل العربية في الدين الجديد. ولما توفي عام 632م كان هو الحاكم الفعلي لجميع شبه جزيرة العرب الجنوبية.

كان العرب من قبل متمرسين بفنون القتال لكن أعدادهم كانت قليلة ومتفرقة ولم يكن من السهل عليهم أن يكونوا أنداداً للجيوش الجرارة التي كانت تسيطر على المناطق الزراعية في الشمال (فارس وبيزنطة)…ومع ذلك فقد توحدوا تحت راية محمد (ص)، وزادتهم تعاليم الدين الجديد حماسة وإيماناً بالإله الواحد، وقامت هذه الجيوش العربية الصغيرة بسلسلة من فتوحات ليس لها مثيل في تاريخ البشرية…استطاع العرب الملهَمون وبسرعة أن يفتحوا كل منطقة ما بين النهرين وفلسطين وسوريا ثم مصر عام 642م.

…لم تكن هذه الانتصارات خاتمة للمد العربي، ففي عام 711م كانت الجيوش العربية قد اجتاحت وبشكل كامل شمالي أفريقية ووصلت إلى المحيط الأطلسي … ثم شمالاً إلى إسبانيا حيث تغلبوا على مملكة القوط الغربيين…

ولبرهة من الزمن كان يبدو وكأن العرب سوف يجتاحون جميع أوروبة…ولكن الجيش الإسلامي إنكسر عام 732م في معركة تورز في وسط فرنسا على يد الفرنجة…ومع ذلك ففي قرن شبه خالٍ من المعارك تمكنت هذه القبائل البدوية التي ألهمتها كلمات الرسول(ص) أن تؤسس إمبراطورية تمتد من الهند إلى المحيط الأطلسي فكانت أعظم إمبراطورية شهدها العالم حتى ذلك الوقت.

وحيثما تصل الفتوحات كان يتبعها اعتناق عدد كبير من الناس للدين الجديد وعلى أوسع نطاق.

…بعد ذلك خرجت بعض المناطق من سيطرة العرب …فاستعاد الإسبان بلادهم وبالقوة بعد سبعة قرون، لكن الدين استمر بالانتشار في مناطق جديدة (وبدون معارك)، وبالملايين في آسيا الوسطى والباكستان والهند وإندونيسيا وغيرها…

كيف يمكن تقييم أثر محمد (ص) الكلي على التاريخ…وللإسلام نفوذه الهائل على أتباعه وحياتهم…ومع أن عدد المسيحيين في العالم يوازي ضعف عدد المسلمين فإنه من الطبيعي أن يبدو غريباً تصنيف محمد(ص) في مرتبة أعلى من يسوع المسيح (ع)، وذلك لسببين رئيسيين: الأول أن محمداً (ص) لعب دوراً أكثر أهمية في تطوير الإسلام من الدور الذي لعبه المسيح في تطوير المسيحية، فالمسيح عليه السلام كان مسؤولاً عن المباديء الأدبية والأخلاقية للديانة المسيحية، إلا أن القديس بولس كان المطور الرئيسي للاهوت المسيحي وكان الهادي الرئيسي للمعتقدات المسيحية والمؤلف لجزء كبير من العهد الجديد في التوراة.

ثانياً: أن محمداً (ص) كان مسؤولاً عن العقيدة الإسلامية ومبادئها الرئيسية والأخلاقية لكنه لعب أيضاً دوراً قيادياً، في الهدي للدين الجديد وفي تأسيس الفروض الدينية في الإسلام وهو الذي أنزل عليه القرآن من خالق الكون…وقد دُوِّن خلال حياة محمد ثم جُمِع بشكل رسمي موثوق بعد وفاته بفترة وجيزة… ومن المحتمل أن تأثير محمد على الإسلام أكبر بكثير من التأثير المزدوج للمسيح والقديس بولس على المسيحية…

ويزيد محمد (ص) عن المسيح (ع) بأنه كان زعيماً دنيوياً فضلاً عن زعامته الدينية وفي الحقيقة إذا أخذنا بعين الاعتبار القوى الدافعة وراء الفتوحات الإسلامية فإن محمداً (ص) يصبح أعظم قائد سياسي على مدى الأجيال.

كثير من الحوادث التاريخية الهامة كانت حتمية الحدوث سواء بوجود الزعيم الذي قادها أو عدم وجوده، فالمستعمرات الأميركية في أميركا الجنوبية مثلاً كانت ستنال استقلالها حتماً حتى ولو لم يعش سيمون بوليفار، ولكن هذا لا ينطبق على الفتوحات العربية. وذلك لأنه لم يحدث شيء مشابه لهذا قبل محمد (ص)، وبالمقارنة مع فتوحات المغول التي كانت ناتجة عن وجود شخصية مثل جنكيز خان فإننا نجد أن فتوحاتهم لم تكن راسخة، فقد انحسرت وأن المناطق التي يسيطرون عليها اليوم هي المناطق ذاتها التي كانوا يشغلونها قبل جنكيزخان.

ويختلف الحال تماماً عند الفتوحات العربية، فابتداءً من العراق حتى مراكش تمتد سلسلة كاملة من الأمم العربية، يوحدها ليس فقط الدين الإسلامي ولكن اللغة العربية أيضاً وكذلك التاريخ والثقافة المشتركة.

كما أن مكانة القرآن في الدين الإسلامي وكونه مكتوباً باللغة العربية كان له أكبر الأثر في منع تفتت اللغة العربية إلى لهجات لا يفهم بعضها بعضاً مما أدى إلى صمودها طيلة الثلاثة عشر قرناً الماضية.

… من هنا نرى أن الفتوحات العربية التي تمت في القرن السابع الميلادي قد صمدت لتلعب دوراً هاماً في تاريخ البشرية حتى يومنا هذا، وأن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معاً يخوّل محمداً أن يعتبر أعظم شخصية فردية ذات تأثير في تاريخ البشرية.

د. مايكل هارت



  [1] د.مايكل هارت، المائة الأوائل، ترجمة خالد عيس وأحمد سبانو، دار قتيبة، الطبعة السابعة،  دمشق، 1996م.