حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في إرسال أصحابه مهاجرين إلى الحبشة

بقلم أ. ع.

بعد أن تعرّض عدد كبير من المؤمنين الأوائل لألوان العذاب، مما تسبب بمقتل عدد منهم، ومع أن الأمر الإلهي صدر بعد ذلك بالهجرة  بقوله تعالى: ” قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {10} (سورة الزمر).

فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن بالهجرة لأيٍ كان، فمن كان في منعة من أهله بقي، وكذلك من كان يسكن في مكان ناءٍ عن مكةولا إذن إلا لمن له عذر: إما مضطهد لا سند له او فقير لا مأوى ولا مورد له.

ولمن كانت كل الجزيرة غير آمنة بالنسبة إليهم، أشار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة:-ح: ” تفرقوا في الأرض “،قالوا أين نذهب يا رسول الله؟ قال:”ههنا” وأشار إلى الحبشة. وقال صلى الله عليه وسلم:” إن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجا”.

فكانت الحكمة الأولى نجاة المؤمنين بحياتهم وعدم تعريضها للخطر. وكانت الحكمة الثانية اختيار مكان آمن تحت سلطة رجل عاقل عادل هو النجاشي ملك الحبشة. بحيث تتأمن معيشتهم ويعبدوا ربهم عنده بأمان وبدون تخفٍ ولا خوف.

والحكمة الثالثة أن القائد لم يرسلهم جزافاً على غير هدى ولا بدون نظام فقد عين النبي رجلاً حكيماًفصيحاً أميراً على المهاجرين ومتحدثاً باسمهم وهو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

وظهر حسن اختيار النبي لجعفر لكفاءته لا لقرب نسبه من النبي، بحسن رده على الاتهامات التي ساقها مندوب قريش بين يدي النجاشي ملك الحبشة، فكان الرد الحكيم بلا تذلل ولا تنازل عن العقيدة:

(أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسبي الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان…وامر بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام …).

وعدد جعفر مزايا الإسلام وتابع: (فصدقناه وآمنا به وإتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبوه ففتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث…).

ثم استحث جعفر القيم والمثل في هذا الملِك: (ولما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك).

ولما سأله النجاشي: (هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟).قال له جعفر: (نعم)، فقال له النجاشي: (فأقرأه علي)، فقرأ عليه صدرا من {كهيعص}،فبكى النجاشي حتى أخضلتلحيته وبكت أساقفه حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي:(إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة).

وإذا بجعفر يستثمر ما عرضه ويقوي حجته، فقال للنجاشي:(سلهما أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيداً أبَقنا من أربابهم فارددنا إليهم فقال: عمرو بن العاص:(بل أحرار). فقال جعفر: (سلهما هل أهرقنا دماء بغير حق فيقتص منا؟ هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه؟). فقال عمرو: (لا)،فقال النجاشي لعمرو وعمارة: (هل لكما عليهم دين؟) قالا: (لا)، فقال النجاشي:(انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا أكاد).وعندها حكم النجاشي: (اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي). وأمضى المؤمنون بقية أيامهم في الحبشة بسلام.

وأما العبر من هكذا هجرة فهي:

1-الفرار بالدين أولى من الخنوع والخوف على المال والمكاسب.

2-تحتاج الهجرة إلى منعة ومناعة: منعة وأمان لدى من يلجأ إليه.ومناعة بالصحبة الصالحة وإلا فإن الهجرة تنقلب وبالاً،فقد تنصرعبيد الله بن جحش الزوج الأول لأم حبيبة بنت أبي سفيانفي الحبشة وأكب على الخمر حتى مات.

3-السفر والهجرة لا يناسبان أياً كان: كم من عائلة مسلمة هاجرت إلى الغرب وضلّت أوأضلّت.

4-سموّ العلاقات بين الكبار: فقد أدت العلاقات الطيبة وتبادل الاحترام بين القائدين إلى حسن استقبال الوافدين.

ومن ثمار الهجرة: أن الهجرتين إلى الحبشة عادتا على المسلمين بفوائد هامة منها:

1-تعلم الصحابة كيف يدافعون عن الدعوة وتعلموا فنون الدعوة إلى الله خاصة وأن ذلك كان أول خروج لهم خارج بلدهم مكة.

2-إنتشار الدين: فقد فتحت آفاق وأقاليم جديدة، فأسمعت غير المسلمينفي اليمن وأفريقيا بالدين الجديد وأعطتهم عنه فكرة دقيقة وواضحة بدلاً من سياسة التشويش والتضليل التي اتبعها كفار قريش.

ومن فقه الهجرة إلى الحبشة نستخلص ما يلي:

1-الفرار بالدين وليس الهجرة من أجل المكاسب والاستقرار:-ح: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). البخاري ، عن عمر .

2-إيضاح حقيقة الأمر لأولي الأمر في بلد المهجر وعدم الدخول خلسة.

3-حسن تصرف المسلم في بلد المهجر فالمسلم سفير الإسلام أينما حلّ.

4-إختيار خير ممثل للمسلمين المهاجرين: يحسن القول ويتمتع باللباقة واللياقة.

5-الهجرة مؤقتة والعودة ملحة حين تسنح أول فرصة وفي البقاء بعيدا عن المجتمع المسلم فتنة. –ح: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

6- لا يجب أن تتوقف الشعائر ولا الحلقات (المسالمة) في بلد المهجر وبما لا يخالف قوانين البلاد.

عسى أن ينفعنا الله تعالى من هذه الحكم والعبر كي لا يلقي الناس بأنفسهم إلى التهلكة فمن فر من الموت فهو ملاقيه، وإلى الموت ذهب، ومن فر إلى الله فإن الله هو نعم المولى ونعم الوكيل.