من حكمته صلى الله عليه وسلم في صبره وتحمله

بقلم أ.ع.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، ما من داعٍ ولا معلمٍ ولا مربٍ ولا أمس ولا أبٍ، درس سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا أخذ منها حكماً عديدة كل في مجال عمله وبحسب توجهه. فبحسب فئة العمر تتطور المعاملة ويتغير التعامل، وبحسب اختلاف البيئة تختلف طريقة التعاطي وأسلوب الموعظة، والعجيب أن المؤدى بعد ذلك واحد وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والبديع أن الكل ينصهر في مجتمع متكامل متعاضد رضي كل عضوٍ فيه بما قسم الله له، وتواضع كل منهم للآخر لا لغناه ولا لمرتبته الاجتماعية بل لأنه صار أخاً له في الله، يعلّم بعضهم بعضا، ويكفل بعضهم بعضا ويغفر بعضهم زلّات بعض ويدعو بعضهم لبعض، نزعوا الغل والحسد من قلوبهم كأنهم صاروا في الجنة على سرر متقابلين ولمّا بلغوها بعد.

وحكمة اليوم من سيرة المصطفى هي صبره وتحمله الأذى والشدائد في سبيل الدعوة إلى الله ودفاعاً عن عقيدته وإيمانه. وبثه هذه الروح في أصحابه.

لقي النبي صلى الله عليه وسلم في انطلاقة دعوته، رفضاً وصدوداً، وتعرض لأذىً معنوي وجسدي، وكان يعلم أن الأنظار مشدودة إليه وما كان له أن يذعن فتخور عزيمة أصحابه ويتمادى ظلم أخصامه، كيف وهو على حق وهو الداعي إلى الحق، فكان بعد ذلك يصف مرحلة الاضطهاد فيقول:”لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخِفت في الله وما يخاف أحد ” .

ما ثار لأن جاره الكافر عقبة بن أبي معيط كان يطرح قمامته على بابه، فالجار لايخاصم ولو جار، وهذه حكمة نادرة في أيامنا لأن خصومة الجار تنكد العيش وتضع العائلة في قلق دائم من التعرض لأذى محتمل في أي وقت. وكان عليه الصلاة والسلام يكتفي بتسجيل امتعاضه من أذى جاره فيقول: “يا بني عبد مناف! أيّ جوارً هذا!”.

كما صبر على أذى أقربائه وخاصة على عمه أبي لهب الذي كان يتبعه في المواسم وبينما كان عليه الصلاة يدعو الناس قائلاً: “يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”،  كان أبو لهب يرميه بالحجارة فيدمي ساقيه وعرقوبيه ويصيح قائلاً: (يا أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه).ولم يكن صلى الله عليه وسلم يرد على عمّه ولو بكلمة رغم أن الناس كانوا يسألون: من هذا؟ فيقال: (هذا محمد يزعم أنه نبي، وذاك عمه يزعم أنه كذاب) وفي صمت النبي صلى الله عليه وسلم حكمة عظيمة، فليس من الشهامة أن يتضارب الرجل مع عمه أو أن يشتمه، فكيف إذا كان نبيا؟

ولم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الضرب والاعتداء وكذلك أبو بكر حين نصره فنال كل منهما قسطاً من الأذى، وعلى الرغم من تكاثر الكفار عليهما كان للاعتداء عليهما آثاره الإيجابية بين القوم، وهنا تكمن الحكمة، فمن الكفار من خاف من ردة فعل أهل النبي وذوي أبي بكر، ومنهم من شعر بالخزي وندم على فعلته، ومنهم من أسلم ومنهم من لم يكن قد سمع ببعثة النبي من قبل فاهتم للأمر وسأل عنه.

ولم يكن صبر النبي على جاره وعمه يعني تخاذلاً منه أو ضعفا، فقد كانت له مواقف شجاعة رغم قلة أنصاره وتخفي عدد منهم، فقد استفزه بعض رجال قريش حين جاء إلى الكعبة طائفاً، ولما ألحّوا عليه قال غاضباً: “لقد جئتكم بالذبح “. فقالوا له:(يا أبا القاسم ما كنت جاهلا، فانصرف راشدا)، والحكمة المستخلصة هنا أنه لا بد للمرء من أن يحمي ساحته عند الاضطرار كي لا تستباح كرامته بعد ذلك ويصبح عرضة للهزء والسخرية والتمادي.

ومن حكمته صلى الله عليه وسلم خلال فترة تعرضه للإيذاء أنه لم يتوان عن الدعوة العامة للحجاج وللتجار في المواسم، بينما كان يتحيّن الفرص للانفراد برجالات قريش محاولاً إقناعهم بعقيدة التوحيد، إذ كانوا كلما اجتمعوا زايدوا في الكفر وأصروا واستكبروا، فنجح إلى حد كبير في أن يسمعهم كلام الله تعالى بطريقة مباشرة وغير مباشرة، لدرجة أنهم كانوا إذا تفرقوا راح كل منهم يسترق السمع وينصت لتلاوة النبي والصحابة بعيداً عن رفاقه. والحكمة هنا الانفراد بالمعارضين واحداً بعد الآخر بعيداً عن تجمعهم حيث يفاخرون في الكفر ويزايدون في العداء.

أدى هذا الصبر وذاك التحمّل إلى إعطاء بقية الصحابة المثل والقدوة، فحامل الدعوة ليس بمنأى عن الأذى أسوة بأصحابه وفي ذلك عزاء لهم واقتداء. حتى إذا ثارت قريش على المستضعفين من المؤمنين، كان حب هؤلاء للنبي ولربه جلّ وعلا، أقوى من أن تؤثر فيهم وسائل الترهيب والتعذيب.

فكان إذا جاءه بعضهم يشكو عذاباته وعذابات رفاقه يجيبه: ” كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.

والحكمة الخلاصة أن الصبر على الأذى والشدائد جعل من المسلمين الأوائل سادةً وقدوةً لمن أتى بعدهم وصارت التضحيات الجسام جزءاً طبيعياً من معركة التوحيد ضد الكفر والشرك.وما كلف غالياً يصبح عزيزاً لا يمكن التخلي عنه مهما بلغت الصعوبات والمغريات. وصلى الله على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين.