ًبركة الاستيقاظ باكرا

د. ميساء بنات

العدد التاسع والأربعون ربيع 2019 – 49

من منا لم يسمع المثل الشعبي (نام بكير وفيق بكير وشوف الصحه كيف بتصير!) ؟ لعلنا قد أدركنا قيمة هذه المقولة ولو متأخرين. إذ باتت المحافظة على أوقات محددة للخلود الى النوم والاستيقاظ باكراً صعبة في ظل التغيّرات المستمرة في نمط حياتنا العصرية.
قبل بضع سنوات، أجرى علماء الأحياء دراسة علمية حول فوائد الاستيقاظ في الصباح الباكر واكتشفوا عدداً من المزايا التي يشعر بها الناس الذين يخلدون الى النوم باكراً.
تمحورت الدراسة حول ظاهرة مهمة جدا تسمى الساعة البيولوجية. إذ لكل منا عدّاد بيولوجي يدور داخل جسده كل 24 ساعة. تتأثرهذه الساعة بعدة عوامل: كالجوع، سرعة ضربات القلب، وجهوزية الجسد للنوم. لكل منا ساعة بيولوجية خاصة تسمى الكرونوتايب Chrono-type وهي جدول زمني يحدد للشخص الوقت الذي يشعر فيه بالتعب.
قد نتساءل لماذا نبدأ بالتثاؤب حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر مثلاً؟ الجواب متعلق بالكرونوتايب الخاص بنا. حدد علماء الأحياء الفترات الأكثر إنتاجية بين حوالي الساعة الخامسة صباحاً وحوالي الساعة التاسعة مساءً.

سواء كان لدينا عادات نوم جيدة أم لا، فإن أجسامنا تتعامل دائماً مع هذه الأوقات بالطريقة نفسها. لذلك ومن أجل الاستفادة من فوائد جدول النوم الذي تم ضبطه بيولوجياً، يجب البدء بالاستيقاظ في وقت مبكر. لكن ما هي هذه المزايا وهل لهذا الجدول التأثيرالفعلي في حياتنا؟

اختبر علماء البيولوجيا هذا السؤال الدقيق نفسه لسنوات واستخلصوا أن الاستيقاظ باكراً يؤثر في الأمور التالية:

• الانضباط
تشيرالأدلة العلمية أن الذين ينهضون في وقت مبكر هم في الإجمال أجدر من سواهم في وضع جداول الاجتماعات وتنفيذها لأنهم قاموا بتكييف أنفسهم على العمل بجد وذكاء أكثر من الآخرين.
إذ أن تدريب النفس على الاستيقاظ في الخامسة صباحاً مثلا يتطلب قدراً هائلاً من الثبات العقلي لتجنب إطفاء زر المنبه. لذلك فإن الاستيقاظ المستمر عند أو قبل شروق الشمس يكسب الشخص ذهناً منظماً.

• الكفاءة والإنتاجية
أظهر عدد من الدراسات أن الأفراد الذين يستيقظون مبكراً يتمتعون بقدرة عالية على التعامل مع المشاكل، ذلك لأنهم يتحكمون أكثر بتفاصيل حياتهم الشخصية والمهنية. ولأن الاستيقاظ المبكر يزيد من الكفاءة والانتاجية ، فيمكن للأشخاص التركيز بشكل أفضل على الأهداف والاطلاع على وجهات النظر المختلفة قبل اتخاذ القرارات الحاسمة.

• الحد من التوتر
تؤسس أول ساعة أو ساعتين من اليوم للساعات الأربع عشرة المقبلة. لذلك فان الوقت الكافي لإكمال روتين الصباح يخفف من كمية الإجهاد الذهني الخارجي الذي قد يواجهه الشخص طوال اليوم. وجدت الدراسات أن الذين يستيقظون في وقت مبكر هم أكثر تفاؤلاً و طموحاً بشكل عام. من ناحية أخرى، يميل محبو السهرإلى الإبداع غير أنهم يعانون من ارتفاع معدلات التشاؤم والقلق والاكتئاب.

• التحفيز
عند ممارسة أعمال الصباح الروتينية ، يوصي العديد من علماء النفس بإضافة شيء يلهم ويبقي الشخص متحمساً ومندفعاً لتحقيقه. ولكن ما هي أفضل الأشياء التي يمكن الحصول عليها من هذه البرمجة الصباحية؟ الأفكار متنوعة ولكن على الشخص اختيار شيء يرتبط بشكل مباشر بأهدافه ويحفز تفكيره. سواء كان يحب الاستماع إلى البرامج الإعلامية الهادفة أو مشاهدة الأفلام الوثائقية أو قراءة الكتب المثيرة. وعليه أن يتعلم من كل ما يستمع إليه. حتى أن بإمكانه دمج الإفادة الفكرية مع تناول وجبة الإفطار لتحفيز عقله أثناء تغذية جسمه. ما عليه سوى الانتباه إلى حجم الطعام المستهلك أثناء مشاهدة البرامج او المطالعة.

• نوعية نوم أفضل
كم مرة يحاول الشخص النوم لفترات إضافية في عطلة نهاية الأسبوع للتعويض عن ساعات الاستيقاظ باكراً خلال الاسبوع؟ في الحقيقة أن النوم الإضافي لا يقدم أية مزايا، لأن جودة النوم لا علاقة لها بالساعات الفعلية للنوم. في الواقع، قد يشعر الشخص بالتعب بشكل خاص في الأيام التي ينام فيها لمدة تسع أو عشر ساعات. ولكن كيف يكون ذلك ممكنا؟ تعتمد جودة النوم بشكل أكبر على المثابرة والمحافظة على جدول نوم منتظم بسبب هذه الساعة البيولوجية الرئيسية، حيث تحاول أجسامنا الاستعداد جسديًا لفترات الراحة اللاشعورية لضمان الحصول على حوالي 8 ساعات من النوم. لذلك، كلما بقي الشخص مستيقظا حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحًا، يصعب على جسمه أن يتهيأ بشكل صحيح للدخول في نوم عميق.

• وقت فطور مناسب
ما هو تفسير مقولة “الإفطار هو أهم وجبة في اليوم”؟ إن تناول وجبة فطور صحية يوفر الطاقة اللازمة للتركيز والأداء طوال اليوم. لا يدرك الكثير من الناس أن الجسد قد يشعر بالجوع حتى خلال النوم. لذلك من الضروري التزود بالوقود عند الاستيقاظ على الفور. هذه مشكلة يواجهها العديد من الذين يستيقظون متأخرين كل صباح تقريبًا؛ فعندما يستيقظون حوالي العاشرة او الحادية عشرة قد يتخطون الوجبة الأولى، هذه العادة تبطّىء عملية الأيض المسؤولة عن تحويل الطعام إلى طاقة صالحة للاستخدام. وإذا لم يعمل نظام الأيض قبل الغداء، فسيشعر الشخص بالكسل. ويؤثرهذا الجدول الزمني لتناول الطعام على زيادة الوزن ، وانعدام التركيز، ونقص الإنتاجية. لذا فإن تجنب هذه النتائج السلبية يكون من خلال البدء بتناول وجبة متوازنة صباحاً وكل يوم.

• وقت للتفكير والتأمل
بالنسبة للأفراد المشغولين بالمدرسة، بالعمل، بالأصدقاء أو بالعائلة، قد يكون من الصعب حصولهم على وقت هادئ، اذ لا يبقى لهم سوى القليل من الوقت للتفكير في حياتهم وأهدافهم ومستقبلهم. ولكن بدء اليوم بساعة أو ساعتين باكراً يفتح الفرص اليومية لتحديد الأهداف واكتشاف الفرص الجديدة. سواء كانوا يرغبون في تجربة هواية جديدة، أو بدء روتين جديد، أو يحتاجون فقط إلى بعض الوقت للتفكير أو التأمل. إن الإستخدام الجيد لهذا الوقت الهادئ يضمن البدء بيوم خال من الإجهاد، ولن يمضي وقت طويل حتى يبدأ التحسن الملحوظ في أداء الجسم وفي القدرة على التركيز.

• الاستيقاظ الباكر في الإسلام
سبق ذكر بعض المنافع التي يحققها الإنسان من الاستيقاظ باكراً: كالانضباط وكفاءة الإنتاجية والتنظيم والحد من التوتر والتحفيز على العمل وتحقيق إنتاجية أفضل والتمتع بوقت هادئ.
هذا السلوك الحياتي والثمرة التي يجنيها الإنسان من باكورة النهار يتلقفها المؤمن بصلاة الفجر فينهض إلى وضوئه ثم صلاته ويجعل أول نهاره توجهاً إلى فاطر السموات والأرض فيشعر أن محياه ومماته لله رب العالمين. ينهض باكراً بعد ليل قضاه وفق نظام الله في كونه، فالله تبارك وتعالى جعل الليل للنوم والراحة والسكون، وجعل النهار للعمل والكد والسعي إلى الرزق، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر، 61]. فعندما يتبع الإنسان سنة الله في كونه يكون شاكراً له على نعمائه، فكم يجب أن يحرص الإنسان على تطبيق منهاج الله في هذا الكون، فالبكور له أهمية في حياة الفرد مما ينعكس إيجاباً على حركة المجتمع وإنتاجه.

• البكور بركة
الإرشاد النبوي مع المسألة المطروحة يجد مداه على صعيد الأمة جمعاء وليس على صعيد الفرد فقط من خلال حسن استثمار الوقت واختيار أبركه، فتزدوج عندها البركة لتكون بركتين، بركة الإقتداء وبركة الإنتاج، فيكون الحظ كاملا من الدعاء النبوي: “‏ اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا ‏”1 ‏. فالبكور بركة وزيادة ونماء لخيري الدنيا والآخرة، والسهر شقاء وتعب وقلة في الدنيا والآخرة، تلك البركة التي خفّ أثرها في حياتنا، وتناسينا الأخذ بأسبابها، والتي كانت سبباً في رفعة سلفنا الصالح وقيادتهم للعالم. وها هو عمر رضي الله عنه يضرب الناس على السمر بعد العشاء ويقول مستنكراً: “أسُمَّراً أول الليل ونوَّماً آخره!؟ أريحوا كُتَّابكم .”2


1 رواه أبو داود 2606، الترمذي 1212، ابن ماجة 2236، صحيح الترغيب والترهيب 1693.
2 فتح الباري- شرح حديث رقم 599
Carskadon, M. A., Wolfson, A. R., Acebo, C., Tzischinsky, O., &Seifer, R. (1998). Adolescent sleep patterns, circadian timing, and sleepiness at a transition to early school days. Sleep, 21(8), 871-881.
Wolfson, A. R., &Carskadon, M. A. (1998). Sleep schedules and daytime functioning in adolescents. Child development, 875-887.
Gais, S., Plihal, W., Wagner, U., & Born, J. (2000). Early sleep triggers memory for early visual discrimination skills. Nature neuroscience, 3(12), 1335.
Wagner, U., Gais, S., & Born, J. (2001). Emotional memory formation is enhanced across sleep intervals with high amounts of rapid eye movement sleep. Learning & memory, 8(2), 112-119.