سرّ تدوين القرآن الكريم

حين بدأ تدوين القرآن الكريم كتابة كان لا يكتب منه آية إلا إذا كانت مكتوبة على جذوع النخل أو الجلود، أو أي وسيلة أخرى من وسائل الكتابة في عصر نزول القرآن، وزيادة على أن تكون الآية مكتوبة كان لا بد أن يكون هناك اثنان على الأقل من الصحابة الحافظين لها، إلا آية واحدة لم توجد مكتوبة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند حافظ واحد فقط، وكان القياس يقتضي ألا تكتب هذه الآية، وهي قوله [من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا] (سورة الاحزاب آية 23).
ولكن انظر إلى الخواطر الإيمانية يقذفها الحق سبحانه وتعالى في قلوب المؤمنين ليكمل منهجه.. هذه الآية لم يوجد من يحفظها إلا خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، وعندما أثار الجدل حول تدوينها، ذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من شهد له خزيمة فحسبه” (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني والقصة أخرجها البخاري في صحيحه).

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما نسخنا المصحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهاده رجلين [من المؤمنين رجال]..
وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد أعطى خزيمة بن ثابت وحده نصاب شهادة رجلين، وهذه لها قصة.. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال (أي أخذ رجال) يعترضون الأعرابي؛ ليساوموه في الفرس دون أن يعرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه، فنادى الأعرابي الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته.. أي هل تريد شراء الفرس أو أبيعه؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أو ليس ابتعته منه؟ّ”.. فقال الأعرابي: ما بعتكه (أي ما بعته لك)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “بلى قد ابتعته منك”. فقال الأعرابي: هلم شهيداً (أي ائتني بشاهد)، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك بايعته (أي بعته له).

وبعد أن انصرف الناس أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: “بم تشهد؟!”، (أي كيف شهدت على هذا، ولم تكن موجوداً وقت المبايعة بيني وبين الأعرابي؟! فقال خزيمة: بتصديقك يا رسول الله، (أي هل نصدقك في كل ما تأتينا من خبر السماء، ونكذبك في هذا؟!) رواه أبو داود وأحمد والنسائي في سننه الكبرى.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين، فأخذت شهادته بشهادة رجلين، وتم تدوين الآية، وكان خزيمة يدعى بذي الشهادتين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادته بشهادتين.


المصدر: تفسير جزء عم للإمام متولي الشعراوي رحمه الله ص. 15-16