أثر الموضة في الأفكار والسلوك

الموضة: منصّة ملوّنة لتشويه الانسانية

أ. زينب ضاهر*

51- العدد الحادي والخمسون خريف 2019

أخوف ما نخافه على أنفسنا هو العيش في عالم ينحدر بسرعة إلى الهاوية ، عالم باتت الحرية فيه المصيدة التي تصطاد الأخلاق والقيم لترميها في القمامة وتنطلق الحرية وحدها لتكشف خبايا الأمراض النفسية والعقلية والروحية في النفس الهمجية وتظهرها إلى العلن قائلة بلسان الحال: “سأجعلكم تعيشون في عالم فاسد لا يصلح لشيء.”
الحرية التي تدعو إليها بعض الأوساط في الغرب، لا تعني التحرر من عبودية الأشخاص والمال، ولا الحرية المنشودة التي يطالب بها الإنسان السوي. بل يطالبون بحرية شخصية تحرر الإنسان من المنطق والعقل والأخلاق والقيَم، وجُلّ ما توصل إليه عبودية بحتة للشهوة مبيحة الأمراض والشواذّ والشذوذ، مناديةً بأن لكل شخص الحرية التامة لفعل ما يريد في حال لم يؤذِ أحد، والحقيقة المرة التي يجهلها من يشجع على هذا النوع من “الحرية”، هي أن الإنسان مرتبط بالكون، وفساده يساوي فساد الكون بأكمله.

ثياب “محايدة” جنسياً لمجتمع أكثر فسوقاً
“لدى الموضة القدرة على تشكيل عقول الناس، أثّر في أطفالك ليصبحوا أحرارًا ويجدوا شخصيتهم الفردية من خلال الملابس”.

بهذه الجملة تفتتح الفنانة سيلين ديون موقعها الإلكتروني (Celinunu)، التابع لخطها الجديد في الموضة والمخصص لتصميم ملابس للصغار تتّسم بالمحايدة الجنسية، وذلك بالتزامن مع التغيرات التي تعصف بمجتمعاتنا والأصوات التي باتت ترتفع مناديةً بالحرية الجنسية الفردية، والتمييز بين مصطلحات “الجنس”و”الجندر” وحرية اختيار الفرد لهويته الجنسية منذ الطفولة، وهي مبادئ بات يتبنّاها أفراد مجتمعاتنا بسهولة تامة غير واعين لما تؤول إليه هذه التيارات التي ستهوي بنا إلى الحضيض.
من المتعارف عليه أن للثياب تأثير على الإنسان، تنعكس على شخصيته وسلوكه، وتعطي انطباعاً عن هويته لمن حوله في المجتمع، فما هو هذا الأثر من الناحية العلمية وكيف تلعب الموضة دوراً في تغيير الناس؟ وهل تُمثّل خطراً على الانسان وعلى المجتمع ؟
تُظهر الأبحاث أنه يمكنك معرفة الكثير عن شخصية إنسان ما، كميوله السياسية، ووضعه الاجتماعي، وعمره ودخله المادي من مجرد النظر إلى صورة لأحذيته. ويُعدّ ارتداء الملابس بشكل ذكي، أمرًا مهمًا أيضًا لتعزيز ثقة الانسان بنفسه وشعوره بالتمكين الذاتي. لكن أسلوبه في ارتداء الملابس يفعل أكثر من مجرد إرسال رسائل إلى ذهنه أو للآخرين. بحسب دراسة جديدة، يؤثر أسلوب ارتداء الملابس في الواقع على طريقة تفكير الانسان. وقد خلصت إحدى الدراسات أيضاً إلى أن اللباس المهني يزيد من التفكير المجرد ويمنح الناس منظورًا أوسع. لذلك قد يكون حتى لربطة العنق في الواقع القدرة على تفعيل الابداع في الانسان. وتقول الدراسة: “قد لا تؤثر شكليات الملابس فقط على الطريقة التي ينظر بها الآخرون إلى الشخص، وكيف ينظر الناس إلى أنفسهم، ولكن يمكن أن تؤثر في صنع القرار بطرق مهمة”(1).

أمّا عن كيفية انعكاس شخصية الانسان عبر الملابس، عادةً ما نقوم بمعالجة التفاصيل المرئية على الفور من خلال عملية تسمى التقسيم الرقيق (thin-slicing). وذلك عندما يصدر الدماغ أحكامًا وخلال جزء من الثانية، أحكاماً بناءً على حافز جديد-غالباً ما يحدث دون علمنا حتى-، فقد نشعر أننا لا نثق بشخص ما، أو أن شخصًا آخر محترم وموثوق. قد لا نعرف حتى السبب. وهو الشعور الغريزي، المعروف باسم الحدس أو الانطباع الأول، وهو في الحقيقة جزء من العملية الذهنية سريعة الخطى للتقسيم الرقيق. إنها مثل الطريقة التي نحكم بها باستمرار على الكتب حسب أغلفتها بشكل دائم(1).
بالتالي، عندما ننظر إلى شخص ما نحكم عليه بشكل غير واعٍ ومباشر من خلال ملابسه، ونقيّمه ونعرف ميوله وانتمائه وحالته الاجتماعية والثقافية.

الإدراك المغلق
نسمع أقوالًا طوال الوقت مثل “ارتدِ الملابس المناسبة للوظيفة التي تتمناها؛ ليس للوظيفة التي لديك” “ابدُ بمظهر جيد، ستشعر بحالة جيدة”. إن البحث في تأثير الملابس على السلوك يوحي الآن أنه قد يكون هناك في الواقع شيء من الحقيقة في هذه الأقوال. يقول العلم أن الملابس التي نرتديها تؤثر على سلوكنا ومواقفنا وشخصيتنا ومزاجنا وثقتنا بل وحتى طريقة تفاعلنا مع الآخرين. هذا هو “الإدراك المغلق” (Enclothed Cognition) (2).
يتم استخدام هذا المصطلح لوصف تأثير ملابسنا على العمليات النفسية المختلفة مثل العواطف والتقييمات الذاتية والمواقف والتفاعلات الشخصية. تؤثر الملابس على سلوكنا ومزاجنا بسبب المعنى الرمزي الذي نسميه (كمجتمع) لأنواع مختلفة من الملابس. نعتبر بعض الملابس قوية، وبعضها ممتع، وهكذا. حتى أننا نقيّم الأشخاص الذين التقينا بهم للتو بناء على طريقة ارتدائهم الملابس لمناسبة معيّنة. يبدو أننا نقيّم أنفسنا وأدوارنا بناءً على ما نرتديه في وقت معين بسبب الطريقة التي تجعلنا نشعر. هذا يعني أن تجربة ارتداء شيء ما تؤثر بشكل دقيق على مواقفنا واختيارنا للسلوك(2).
“الإدراك المغلق”، نظرية جديدة تتطور في مجال علم النفس الاجتماعي، حيث يدرس العلماء كيف يمكن أن تؤثر الملابس على العمليات الإدراكية (…) . تم اختبار هذا عن طريق إعطاء المعاطف البيضاء للناس وإخبارهم أنهم إما أطباء أو رسامون ثم لاحظوا سلوكهم. اتضح أن الناس يتعرفون على الدور المعطى لذلك فإن أولئك الذين كانوا يتظاهرون بأنهم أطباء أظهروا بعض الخصائص الأكثر شيوعًا التي نربطها بمهنتهم، مثل الرعاية، والعناية، والاهتمام بالتفاصيل. ومع ذلك، لا يتعلق الأمر فقط بمعاطف المختبر – حيث يثبت هذا القول القديم “أنت ما ترتديه” أنه صادق في جميع جوانب الحياة تقريبًا(3).
ان ارتداء ملابس المكتب الرسمية والملابس المنظمة (structured clothes) يضعنا في الإطار الصحيح لممارسة الأعمال. فارتداء ملابس السلطة يجعلنا نشعر بمزيد من الثقة [ربما لأننا نسميها ملابس القوة]؛ وحتى تزيد هذه الملابس الهرمونات اللازمة لإظهار الهيمنة. وهذا بدوره يساعدنا على المفاوضة بشكل أفضل والتفكير بتجرد(2).
لتحسين الصورة الذاتية، قد يكون حتى نسخ أسلوب شخص ما فكرة جيدة. فالأبحاث تظهر أننا عندما نحاكي نظام لباس الأشخاص الذين نعتبرهم أذكياء وأقوياء، نشعر بتحلّينا بهذه الصفات أيضًا(2).
وهنا يكمن الخطر، فمن هم أيقونات الموضة في العالم؟ وما هو سلوكهم الذي يروجون له عند الترويج للموضة؟

حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من لبس الثياب بسبب علامتها التجارية، عن ابنِ عُمَرَ -قال في حديث شَريكٍ: يرفعُه- قال: “من لبِسَ ثوبَ شُهْرَةٍ ألْبَسَهُ اللهُ يومَ القيامةِ ثوباً مثلَه -زاد عن أبي عَوانةَ- ثم تَلَهّبُ فيه النَّارُ”(4)، أمّا عن التشبّه بأيقونات الموضة البعيدين كل البعد عن تعاليم ديننا من حيث السلوك والقيم والتصرفات، عن ابنِ عُمَرَ، قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلم -: “مَن تَشَبَّه بقومٍ فهو منهم”(5)، وهنا تنبيه خطير من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فالتشبّه بالظاهر سيؤدي حتماً إلى التشبّه بالباطن، وهو هلاك للمسلم وهلاك لإيمانه ولمجتمعاتنا الإسلامية بشكل عام.
أمّا عن تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، بات من الطبيعي أن نُشاهد رجالاً ترتدي تنانيراً، ونساءً ترتدي بدلات رجالية، خاصة على منصات الأزياء، كما يظهر لنا أدناه:

فماذا قال عنهم عليه الصلاة والسلام؟ عن ابنِ عباسٍ، عن النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم-: لَعَنَ المُتشبَّهاتِ من النِّساء بالرِّجالِ، والمُتشبِّهينَ من الرِّجالِ بالنِّساء”(6)، وعن أبي هريرة، قال: لَعَنَ رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلم – الرَّجُلَ يلبس لِبسةَ المرأةِ، والمرأة تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرجُلِ”(7).

الإسلام والجمال
لم يغفل الاسلام هذا الجانب ووضع حدوداً لارتداء الملابس تكفل للإنسان الحفاظ على قيمته ومكانته، وتدّل بدورها أيضاً على انتمائه للدين الاسلامي، فينعكس بالتالي الاسلام في المظهر، فيظهر الانسان على الكمال.
وكما أحبّ الله تعالى لعباده، أحبّ لهم أن يظهروا أثر نعمه عليهم، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده لكن دونما تكبر أو زهوٍّ وخيلاء، عن أبي الأحوص عن أبيهِ، قال: أتيتُ النبي – صلَّى الله عليه وسلم – في ثوب دُونٍ، فقال: “ألكَ مالٌ؟ ” قال: نعم، قال: “مِنْ أيِّ المالِ؟ ” قال: قد آتاني اللهُ مِن الإبل والغَنَمِ والخيلِ والرَّقيقِ، قال: “فإذا آتاكَ اللهُ مالاً فليُرَ أثرُ نِعْمَةِ اللهِ عليكَ وكرامتِهِ”(8).
لذا فالظهور بمظهر أنيق مرتب نظيف وجميل، هو فرض على المسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس أكمل الثياب، وعن عبد الله بنِ عباس، قال: لما خرجَتِ الحروريةُ (الخوارج)، أتيتُ علياً، فقلتُ: آتي هؤلاءِ القومَ، فَلَبِسْتُ أحسَنَ ما يكونَ مِن حُلَلِ اليَمَنِ -قال أبو زُميل: وكان ابنُ عباسٍ رجلاً جميلاً جهِيراً-، قال ابن عباس: فأتيتُهم، فقالوا: مرحباً بك يا أبا عباسٍ، ما هذه الحُلَّةُ؟ قال: ما تعيبُون عليَّ؟ لقد رأيتُ على رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلم – أحسَنَ ما يكونُ مِن الحُلَلِ(9).
ومُباح له لبس الجمال ما دام ليس من الحرير أو الذهب، وعن لبس الحرير، عن ابنِ عباس، قال: إنما نهى رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلم – عن الثوبِ المُصْمَتِ من الحرِيرِ، فأما العَلَم من الحرير(أقلام وشراريب) وسدَى الثوبِ فلا بأسَ به(10).
أمّا المحاذير التي وضعها لنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي الإسراف والمَخيلة، يقول الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “كُلْ مَا شِئْتَ، وَالبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ”(11).

زيّ جلدي وذيل
يتم تناقل منشور في مواقع التواصل الاجتماعي حول تحول بعض الأناس إلى كلاب بفعل إرادتهم وعيشهم حياة الكلاب كاملة، وقد نشرت صحيفة (The Guardian) تحقيقاً عن هذا الأمر حول من سمّتهم (: Human Pups)(12)، مستندة أيضاً إلى وثائقي يعرِض هذا النوع الجديد من الميول التي تحوّل الإنسان الشاذ جنسياً في أغلب الأحيان، إلى كلب يعيش برفقة صاحب له يدعى (The handler)، يأكل من صحن ملقى على الأرض مخصص للكلاب ، يمشي على أربع، يرتدي زياً جلدياً ويعوي في أنحاء المنزل ليبيت آخر ليلته في قفص(13).
الأغرب في هذه القصة هو انتشار هؤلاء ليشكلوا مجتمعاً يظهر إلى العلن ويقوم بمظاهرات وينتشر لينضم إليه الآلاف في أوروبا حتى الآن. والأكثر غرابة هو اللامبالاة من قبل المجتمع، فنرى التعليقات إمّا تهكمية وإما لا مبالية وإما مشجِعة على الحرية الشخصية لهؤلاء، “كل إنسان حرّ في اختيار أسلوب حياته”.
فأين حدود الحرية التي يطالب بها الإنسان، وهل الإنسان حقاً حرّ في اختيار أسلوب حياة قذر ومقزز؟ وهل الإنسان حرّ في الإساءة إلى نفسه وإلى جسده وروحه؟ وأين حدود الأمراض النفسية والعلاج النفسي؟ وكيف يسكت المجتمع وعلماؤه عن هذه الانحرافات بل ويعمّموها على أنها ميول طبيعية؟

في الختام، تبيّن لنا تأثير الملابس على الإنسان وسلوكه، والفوضى التي تعيش فيها مجتمعاتنا فبات المحظور مباحاً وغير الطبيعي والمرَضي سلوكاً حرّاً خاصاً بصاحبه، لقد بات العالم مخيفاً، وكلما زادت الاضطرابات التي تعصف بمجتمعاتنا يزيدنا العقل والإيمان تمسّكاً بالسلوك المستقيم الذي يدعو الإسلام إليه، سلوكٍ يضمن للإنسان كرامته وقيمته في مجتمعه ويرتقي به إلى الأعلى، في عالمٍ بات من الطبيعي فيه أن يتصرف الإنسان كالكلب، والرجل كالمرأة والمرأة كالرجل، عالم انحدرت فيه الأخلاق والقيم ونخشى أن يكون الآتي أعظم.


*من أسرة التحرير في مجلة “الإعجاز”.
المصادر:
(1): مقالة “Research Shows That the Clothes You Wear Actually Change the Way You Perform”، لـ “Molly St. Louis”، رابط المقالة:https://www.inc.com/molly-reynolds/research-shows-that-the-clothes-you-wear-actually-change-the-way-you-perform.html
(2): مقالة “WHAT YOU WEAR CHANGES THAT WAY YOU THINK”، رابط المقالة:https://brainfodder.org/psychology-clothes-enclothed-cognition/
(3): مقالة “Are You What You Wear? How Our Clothes Affect Our Personality” لـ ” Marcus Gilmore” نُشرت بتاريخ 30 أيلول 2017، رابط المقالة: https://www.theculturesupplier.com/fitness/wear-clothes-affect-personality/
(4): سنن أبي داود ت الأرنؤوط (6/ 143)
(5): سنن أبي داود ت الأرنؤوط(6/ 144)
(6): سنن أبي داود ت الأرنؤوط (6/194)
(7): سنن أبي داود ت الأرنؤوط (6/ 195)
(8): سنن أبي داود ت الأرنؤوط (6/ 169)
(9): سنن أبي داود ت الأرنؤوط (6/ 149)
(10): سنن أبي داود ت الأرنؤوط (6/ 164)
(11): صحيح البخاري (7/ 140)
(12): مقالة “The men who live as dogs: ‘We’re just the same as any person on the high street'”، رابط المقالة: https://www.theguardian.com/tv-and-radio/2016/may/25/secret-life-of-the-human-pups-the-men-who-live-as-dogs
(13): وثائقي تحت عنوان “Life Of The Human Pups DOCUMENTARY”، رابط الوثائقي: https://www.youtube.com/watch?v=dViIVCg0OpQ