حِكم من سورة المائدة – لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر

أ.باسم وحيد الدين علي

العدد السابع والأربعون خريف 2018 – 47

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) } [المائدة].
قال تعالى: يسارعون في الكفر ولم يقل يسارعون إلى الكفر، والمعنى أنهم مصرون عليه مستغرقون فيه، يتوغلون في الكفر بمرور الأيام والأحداث، ولذلك بقي الإيمان ادعاءً ولم يخترق إلى القلب.
هم المنافقون، سمّاعون لما يقوله اليهود، سمّاعون أي أدمنوا الإصغاء لليهود الذين يديرون المعركة مع الداعي دون أن يظهروا إلى العلن أو أن يواجهوه.
وفي معنى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} قال أحبار اليهود: إذا أفتى لكم النبي بما يناسبكم فاقبلوه وإلا فاحذروا فإنه نبيّ. قال الطبري: كان رجل من اليهود قتله رجل من أهل دينه، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين: سلوا ليِ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن بُعِثَ بالدية اختصمنا إليه، وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}، والمقصود أنهم حرفوا حكم الرجم للزاني فجعلوه جلدا. وَكَانَ ذلك مكتوباً فِي التَّوْرَاةِ، فَكَانَ إِذَا زَنَى مِنْهُمْ حَقِيرٌ رَجَمُوهُ، وَإِذَا زَنَى مِنْهُمْ شَرِيفٌ حَمَّمُوهُ أي سوّدوا وجهه بالفحم، وَطَافُوا بِهِ على حمار ووجهه إلى الخلف، ليفدوه من الرجم بالتشهير، فَاسْتَفْتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفْتَاهُمْ بِالرَّجْمِ، وَسَأَلَهُمْ عَمَّا يَجِدُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ فَكَتَمُوهُ، إِلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ أَعْوَرَ فَإِنَّهُ، قَالَ: كَذَّبُوكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمُ “.
الحكمة الأولى: من علامات الكافرين والمنافقين، تطبيقهم ما يناسبهم من أحكام الشرع والكتاب دون أحكامٍ أخرى لا تناسبهم. قال الله تعالى في سورة الحجر:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) }.
الحكمة الثانية: لا يحزنك. وهو حزن الرسول والداعي ولحزنهما ثلاثة أوجه:
أ- الحزن الأول: حزنه أسفاً على من لا يصغي، من المنافقين والكافرين، لأن إصرار البعض على الكفر أو الغفلة سيودي بهم إلى العذاب، عذابي الدنيا والآخرة. قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)} [المائدة]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقال له: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].
ب-الحزن الثاني: حزنه خوفاً من بطش المنافقين والكافرين وحتى الحاسدين من أهل ملّته ويا للأسف. والحسد يضع الحاسد في خانة المنافقين والعياذ بالله إذا أراد بالداعي سوءا. والله تعالى يؤيد رسله فيقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة].
ج-الحزن الثالث: حزن الداعي لشعوره بالفشل والعجز والخيبة والتقصير لأنه عجز عن إقناع البعض وهدايتهم، فنسب العلة إلى نفسه. وجواب الله تعالى له في هذه الحالة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [المائدة].
الحكمة الثالثة: لوشاء الله تعالى أن يجعلهم مؤمنين لما جعل لديهم القدرة على الكفر. {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)} [الشعراء].
ولو شاء ربنا لهدى الناس جميعاً، لكنه يريد من الانسان العاقل المخيّر أن يؤمن بقرار ذاتي منه، قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149].
الحكمة الرابعة: تخيير الناس هو الذي يحسم مصائرهم.
أينما تنزه بصرك في القرآن الكريم تجد الله تعالى قد قسم الناس إلى فئات:
أ‌- مسلمين على درجات مسلم باللسان ومؤمن بالقلب واللسان ومحسن يعيش مع الله تعالى بعنايته وتحت مراقبته.
ب‌- منافقين، عليمون باللسان مراؤون أمام الناس، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون.قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [النساء: 145].
ت‌- كافرين، معادين محاربين وجاهرين بالعداء وبالمعصية. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [النساء: 140].
الخلاصة: كيف نتوقى الفتنة إذن؟
أولاً- في الاعتقاد: عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّهُ أَن يذهبه عني من قلبِي قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَوْعَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أرضه عذبهم وَهُوَ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ فِي سَبِيل ِاللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فقَالَ مِثْل َقَوْلِهِ ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل َذَلِكَ.
ثانياً- في العمل: جواب الآية السابقة في هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)} [المائدة].
وصلى الله على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين.