“قبضة الموت” المال الحديث، عبودية الديون والإقتصاد المدمر

د. ميساء بنات

العدد الثالث والخمسون ربيع وصيف 2020

حين تفشل المهن، يعاني الأشخاص، وحين تكون المهنة متعلقة بالإقتصاد، فالعالم بأكمله يعاني نماذج المعاناة تجسدها نسبة الدين العام: مثلاً بريطانيا مدينة ب 400 بليون باوند، كندا 650 بليون دولار، ألمانيا 500 بليون داتش مارك، اليابان 2 تريليون دولار، وأمريكا 5 تريليون دولار.
سؤال قد يخطر في بالنا: هل هذه البلدان فقيرة؟ الجواب كلا. سؤال آخر يطرح نفسه: إذا كانت كل هذه الدول ترزح تحت طائلة الدَّين، لمن هم مدينون إذاً؟ وإذا كانت جميع الدول مدينة، لمن يستحق هذا الدين؟ والمثير للعجب أن الدول التي ترزح تحت نسبة الديون الأكبر هي الأكثر تقدماً.
كل هذه الأسئلة يجيب عليها “Michael Rowbotham” في كتابه ” The Grip of Death: A Study of Modern Money, Debt Slavery and Destructive Economics”: أي ” قبضة الموت: دراسة عن المال الحديث، عبودية الديون والإقتصاد المدمر”.
أما الترجمة الحرفية للعنوان “قبضة الموت”، كما يقول المؤلف فهي: الرهن العقاري، تحديداً رهن المسكن حتى الممات. عنوان قبضة الموت هو ترجمة فضفاضة لكلمة “رهن”، وهو ما يعني حرفيًا “تعهد بالموت”.

من هو “Michael Rowbotham”؟
هو كاتب ومعلق سياسي واقتصادي مقيم في المملكة المتحدة ويعرف بكتابه “وداعاً أمريكا” الذي نشر في العام (2000)، وكتاب “قبضة الموت” الذي نشر في العام (1998). يقع الكتاب في 344 صفحة مقسمة على 18 فصل. بعض عناوين الكتاب: أسطورة المجتمع الاستهلاكي، قوة المال، التضخم، حرب التصدير…
الأسلوب:
يتميز الكاتب بأسلوب سهل في عرض السبب الرئيسي لمعظم المشاكل في العالم وكيف تؤثر على كل قطاع اقتصادي في جميع بلدان العالم، ويعرض المعلومات بشكل منطقي. بالنسبة للاقتصاديين الأكاديميين، يُعدّ الكتاب مادة مهمة مطروحه بأسلوب سلس يبحث أسباب وتداعيات عدم استقرار النظام المالي الحالي.

الكتاب باختصار:
تتمحور النظرة العامة للكتاب حول الاقتصاد من وجهة نظر اجتماعية أخلاقية “a socio-economic perspective”. يناقش الكتاب موضوع التمويل والديون والاقتصاد من حيث تأثيرها على المجتمع والسياسة والأخلاق وليس من ناحية اقتصادية بحتة وللكاتب مآخذ عديدة على أثر الديون والمصارف وقدرتهم على التمويل وما الى ذلك من آثار سلبية على المجتمع ويعتبرها قدرة تدميرية أكثر منها بنيوية.
يعتبر الكاتب أن عملية صناعة المال (money creation) هي إشكالية لأن حجم كتلة المال الموجودة في السوق والتي يطبعها البنك المركزي ويصرح عنها على موقعه الإلكتروني لا تتناسب مع حجم الأموال الموجودة في السوق. وهذا الفارق بين حجم المال الموجود في السوق وكمية الأموال التي طبعها البنك المركزي يعود إلى قدرة البنوك على صناعة الأموال عن طريق إعطاء الديون. وهذا ما يطلق عليه “Rowbotham” اسم “العبودية”: “a slavery relationship” بين البنك والمستدين الذي رهن أي شيء مقابل هذا القرض مما يعطي هذا البنك القدرة العالية على التحكم بالاقتصاد.
حتى إن الكاتب يطرح إشكالية أخرى هي تهرّب البنوك من الـ 10% الاحتياطي بحيث أصبحت تأخذ أموال المودعين وتستثمرها بسندات الخزينة مع البنك المركزي مما أعطى البنوك قدرة أعلى على التحرك. مثلاً في العام 1997 أظهرت إحصائيات “Bank of England” أن الأموال المفبركة كانت 25 بليون $ بشكل عملة نقدية طبعها البنك المركزي وضخها في الاقتصاد. بينما فبركت البنوك والأسواق 655 بليون $. أي أن نسبة 97% من قيمة الأموال أتت عن طريق الديون وليس عن طريق الكتلة النقدية التي طبعها البنك المركزي.
في المملكة المتحدة على سبيل المثال، تبين إحصائيات بنك إنجلترا لعام 1997 أن المبلغ الإجمالي للأموال التي تم إصدارها من قبل البنك المركزي نيابة عن حكومة المملكة المتحدة هي فقط 25 مليار جنيه استرليني بشكل اوراق نقدية وعملات معدنية بينما خلقت البنوك ومجتمعات البناء ما تبقى من 655 مليار جنيه استرليني (97٪ من جميع الأموال المستخدمة في المملكة المتحدة) عن طريق إقراضها في صورة قروض وقروض شخصية وسحب على المكشوف.
وبالتالي، فإن الأموال المقترضة تشكّل ما يقرب من كامل الأسهم المالية في المملكة المتحدة. وينطبق الشيء نفسه في أمكنة آخرى.

ماذا يريد “Michael Rowbotham”؟
يريد خلق نظام جديد يكون فيه سياسة نقدية عادلة تجاه الناس ولا تعطي البنوك القدرة على استغلال الناس عن طريق الديون.
يرى الكاتب أن العلاقة بين الدائن والمدين علاقة غير عادلة. إنها علاقة عبودية نظراً للقدرة العالية التي يتمتع بها المصرف للسيطرة على الطريقة التي نتصرف بها بأموالنا من خلال صناعة الأموال.
تكمن المشكلة في صناعة الأموال من خلال الديون وليس من خلال طباعة الأموال مما لا يوازي بين ما يطرحه البنك المركزي من أموال وبين إنتاج أو استهلاك. ما يعطي المصرف القدرة على تحديد من يستطيع الحصول على قرض ومن لا يستطيع، وهذا نوع من الـ “Monopoly”: احتكار لكمية الأموال الموجودة والمصارف هي التي تقرر من الستفيد.
إنها نظرة “كارل ماركسية شيوعية” بمعنى أن رأس المال هو الذي يتحكم بالناس ومن يتحكم برأس المال هي المصارف التي تتحكم بالأموال الموجودة وأصحاب العقارات يتحكمون بالعقارات. وأغلب الظن أن هذه القروض ستذهب إلى أصحاب الأراضي الذين يملكون من الملاءة المالية ما يخولهم الحصول على قروض وسدادها ورهنها مما يعزز الطبقية في المجتمع. فتكون هذه الطبقة المالكة هي العليا وما غير ذلك دونها.
إذاً المصرف هو الذي يتحكم بالاقتصاد وكمية الأموال الذي يجب ضخها في السوق. فإذا أراد البنك ركود الاقتصاد يوقف إعطاء القروض وإذا أراد إنعاش الاقتصاد فإنه يعطي القروض ويخفض نسبة الفوائد فتستطيع الناس العمل والعيش “ببحبوحة”. إنه اقتصاد متضررّ وتحتكره المصارف وهذا جزء كبير من مشاكل العالم الثالث مثل لبنان ومصر وغيرهم. فهذه البلدان استدانت الأموال أكبر بكثير من قدرتها على الإنتاجية فوقعت في مشاكلها الحالية. وبحسب الكاتب فإن هذا النظام الربوي هو المسؤول عن مشاكل العالم الثالث. تؤدي كثرة القروض بحسب الكاتب إلى التضخم وزيادة الأسعار بشكل عام وكلفة الإنتاج والتضخم بكل العالم وذلك لأن ضخ القروض يؤدي إلى زيادة الأموال ورفع الأسعار وإذا لم تُضخ القروض يقع الناس في مشاكل كبيرة لأن عليهم سداد الفوائد.
يريد الكاتب نظاماً يناقض الفكرة الماركسية فعلى الطبقة العاملة أن تثور على هذا الوضع. كما يدعو إلى خلق اقتصاد عبر طبع الأموال وليس عبر إعطاء القروض فتصبح الدولة المتحكم الأكبر لعملية القروض عن طريقها وليس عن طريق المصارف.
يخلص الكتاب إلى طرح نظرية اجتماعية مفادها: “نحتاج إلى حاكم عادل” وليس مصرف يستغل السلطة للحصول على إفادة شخصية خاصة.
من بين التعليقات التي نشرت عن هذا الكتاب:
“إنه أداة أساسية للتثقيف الذاتي”، “نظريةRowbotham واضحة ومبتكرة”، “قبضة الموت من أفضل الكتب حول كيفة التحرك نحو نظام المال من أجل عالم مستدام وشامل”. بينما وجد البعض أن الكتاب “قد فشل لأنه يرى أن جميع الأمراض الاقتصادية سببها واحد وهو النظام المصرفي الذي يتم من خلاله إنشاء ٩٧% من أموالنا. ثم يقدم مخطط غير مرجح للإصلاح النقدي كحل”.


*من أعضاء منتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة- لبنان.