نمط العيش بالحد الأدنى: التقليص

يارا أبو عدلا*

العدد الثالث والخمسون ربيع وصيف 2020

نعاني في العصر الحالي من ضغوط هائلة بسبب ثقافة الاستهلاك. إذ أصبح الإنسان استهلاكيًا بالدرجة الأولى. نعرف هذا من ازدياد حالات الإدمان على التسوق والهوس باقتناء المزيد من الأشياء. وبالتالي يشعر الفرد أنه في سباق دائم لمواكبة هذا العالم المادي، ولا عجب من أن يؤدي هذا السباق الوهمي إلى ازدياد التوتر النفسي وتشتت الذهن.
ظهر في أواسط التسعينات نمط جديد “قديم” يدعو إلى العيش بالحد الأدنى للتقليص من هوس شراء الاحتياجات المسيطر على رغباتنا وأفكارنا وجيوبنا والذي يسعى إلى إقناعنا بأن إسراف الأموال بالإنفاق على الملابس والسيارات والتحف والمنازل والأجهزة الإلكترونية يجلب السعادة ويحقق الرضى . ويطلق على هذا النظام اسم minimalism أي التقليص ويعني استخدام أقل الأدوات أو الألوان الممكنة في إنجاز أي عمل موسيقي أو فني. وقد عمل كل من جوش ميليبرن وريان نيكومينز، أصحاب فيلم ومدونة “The Minimalists” ، على تطوير هذا المفهوم ليشمل أسلوب الحياة بالكامل. فقد عرضوا تجربتهم الخاصة عن اتباع هذا النمط من الحياة، وكيف بدأت حياتهما بالتغير نحو الأفضل .
لا يدعو هذا النمط إلى التوقف عن شراء المقتنيات فحسب، بل يشجع على مجابهة العالم المادي الذي يستنزف الأموال والطاقات الفكرية ووقت الإنسان. فلسفة حياة البساطة التي ترى بأن سعادة الفرد لا ترتبط بحجم أغراضه ولا بقدرته على الشراء والاستهلاك بل بقدرته على التخلي عن الأشياء التي أدّت إلى تعاسته بسبب الهوس لاقتناء كل جديد وكل ما هو متوفر. ومن حسنات هذه الفلسفة أنها تشجع الفرد على التفكير ملياً بقراراته الشرائية وبقيمة الأموال التي عمل بجد على تحصيلها. كما تدعوه إلى النظر بوضوح إلى أولوياته وإلى الأشياء التي لها قيمة بالفعل كالصحة والعائلة بدلاً من الانسياق خلف متعٍ مؤقتة.
عن ذلك يقول نيكومينز: “الـminimalism (أو التقليص) لا يعني التوقف عن الشراء أو التخلص من الأشياء التي نملكها، إنما هو عبارة عن مخرج من سيطرة الهوَس المادي على رغباتنا وأفكارنا وجيوبنا”.
يشير ميليبرن إلى أن هوسنا بالماديات ازداد بسبب فكرة الاحتياط. كأن يفكر الفرد أنه قد يحتاج هذا الشيء لاحقاً، وذلك من منطلق الإشعار بالأمان، وأن مفهوم السعادة مرتبط بكم الأشياء التي نشتريها حتى ولو كان شعورًا مؤقتًا من الفرحة. كذلك فإن الإعلانات التي تنتشر في كل زاوية من محيطنا وبشكل واسع تسعى إلى جذب المشترين وتعزز فكرة الاقتناء.

ويضيف ميليبرن “يمكن للبعض أن يستغرب هذا النمط من الحياة والعيش بهذا الحد الأدنى من البساطة، لكنه أمر يستحق التجربة ويمكن البدء به تدريجيًا وبالتخلي عن عدد معين من القطع والأدوات بشكل شهري”.
ومن مشجعي هذا النمط من الحياة مؤسِّس شركة آبل، ستيف جوبز، وهو مؤمن موقن بالتبسيط. وهو يعزو نجاح منتجاته إلى بساطة التصميم وسهولة الاستخدام. وكان “تبسيط التعقيد” هو الدرس الرئيسي الذي قام بتدريسه للشركات. توضح هذه التقنية أن النقطة المحورية ليست المنتج المتطور الذي تبيعه، ولكن الطريقة التي تتعامل بها مع العميل وتقوم بتطوير تقنيات الجيل الرائد. لم يطبق جوبز هذه الفلسفة فقط على أعماله، ولكنه كان أيضًا ممارساً لهذه التقنية في حياته.
قال جون سكولي الرئيس التنفيذي السابق لشركة آبل في مقابلة: “أتذكّر منظر الدخول إلى منزل ستيف ولم يكن لديه أثاث تقريبًا. كان لديه فقط صورة لأينشتاين، الذي أعجب به كثيرًا، وكان لديه مصباح وكرسي وسرير. لم يؤمن فقط بوجود الكثير من الأشياء، لكنه كان حريصًا بشكل لا يصدق على ما اختاره”.

نموذج أقدم عن العيش بالحد الأدنى هو ماركوس أوريليوس، امبراطور رومانيا في القرن الثاني الميلادي، وقد اشتهر بتأملاته في الفلسفة الرواقية، وهي فلسفة تدعم العيش في بساطتها البالغة.
بعض التقنيات التي يمكن تطبيقها لاتباع هذا النمط من العيش :
• اكتب قائمة بالممتلكات التي لا تحتاجها
• تخلّص من كل الأغراض المتكررة
• توقف عن التعامل مع الأوراق
• أبقِ منزلك خالٍ من الركام
• بسّط عملية الطعام
• اقتصد في لباسك
• قلّص احتياجاتك
لا يقتصر هذا النمط من العيش على تقليص المقتنيات بل يشمل ما هو أهم من ذلك: تقليص استخدامنا للتقنيات الحديثة التي تستنفذنا وتفقدنا التركيز وتعتبر من أكبر الملهيات في حياتنا. من ذلك التطبيقات الاجتماعية والاتصالات ورسائل الهاتف. فلو نجحنا في ذلك لوجدنا راحةً نفسية وقدرةً على ترتيب أولوياتنا واهتماماً أكبر بأنفسنا وبصحتنا وبعلاقاتنا مع ربنا ومع الآخرين. وبالتالي سوف نصبح أشخاصًا مساهمين في المجتمع لا مستهلكين فقط، وهذا ما سيجعلنا نشعر بالسعادة الحقيقية.
ونختم بتعليق أخير عن هذا النمط الحديث “القديم” في الواقع. إذ كانت حياة النبي الأعظم، صلى الله عليه وسلم، نموذجًا للحياة البسيطة، حيث قال: “‏ كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ‏”‏ ‏.‏
*من أصدقاء منتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في لبنان


1- https://www.tate.org.uk/art/art-terms/m/minimalism
2- https://www.theminimalists.com/
3- https://www.noonpost.com/content/17709
4- https://www.becomingminimalist.com/10-reasons-why-minimalism-is-growing-a-k-a-10-reasons-you-should-adopt-the-lifestyle/
5- سنن النسائي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ