هل أُعِدنا إلى الكهف؟

د. جمال عبد الستار

العدد الثالث والخمسون ربيع وصيف 2020

فجأة وبلا مقدمات أوقف الله تعالى سرعة انطلاق الحياة، وأعاد البشرية كلها إلى الكهف لتُدرِك لا لتترَك، لتنهض لا لتمرض، لتستيقظ لا لتنام، لتُبعث لا لتموت.
أوقفنا الله تعالى ليلفت انتباهنا جميعاً، وليسألنا جميعاً: أين تذهبون!!
أوقفنا ليخبرنا أن تلك الهموم والمشاغل والأعمال ليست حقيقية، وسوف تختفي جميعاً لحظة اختفاء قيمتها في نفسك، فأنت من ضخّمها ونفخ فيها وعظّمها.
أوقفنا الله تعالى ليذكّرنا بأنه الفعال لما يريد، وأن تلك القوة المادية التي خطفت أبصارنا، والتكنولوجيا المتطورة التي سلبت عقولنا، ليست إلا لعباً ولهواً، وأنه تعالى بمخلوق لا يُرى بالعين المجردة أوقف الكل عاجزاً أمام قدرته.
أوقفنا الله تعالى ليطهِّر قلوبنا من الاغترار بشبهات الملحدين، وتطاول الماديين، وتعالي المتغربين، وحمايتنا من التأثر بذيوع صيت التافهين.

الغربة:

أعادنا الله إلى الكهف ليذكّرنا بأن لنا في البيوت شركاء تعمقت الغربة بيننا رغم قربنا، وجفت ينابيع المحبة بيننا بسبب هموم المشاغل والمتاعب، وخفتت أحاسيس العطف والود وسط ضجيج الحياة وسرعتها الهادرة.
أعادنا الله إلى الكهف ليذكرنا بأن لنا أولاداً ربما كبروا ولم نتعرف عليهم بعد، وربما نضجوا ولم يأخذوا منا حظهم بعد، بل ربما لم نكتشفهم على حقيقتهم ولم نحسن التعرف إلى ملامحهم واهتماماتهم وأفكارهم وتطلعاتهم، فنحن بالنسبة لهم دائما مجرد ضيوف عائدين من عمل أو ذاهبين إلى عمل، نجلس معهم في البيت دون أن ننقطع عن استكمال الأعمال والاتصالات والمهام.
أعادنا الله تعالى إلى الكهف لنكتشف أن لنا أرحاماً مقطوعة لم توصل منذ زمن بعيد، وأصحاباً وأحباباً انقطعت بنا علاقتهم وغابت عنا مودتهم.
أعادنا الله إلى الكهف ليسأل أحدنا نفسه من أنا؟ هل أنا قطعت من العُمر كل هذه السنوات فعلاً؟ هل حققت إنجازات فعلية على هذه الأرض ستنتفع بها البشرية بعد موتي؟ هل أنا مستعد الآن للقاء الله مطمئناً لهذا اللقاء مشتاقاً إليه؟
أعادنا إلى البيت لنقعد فيه أصحاء قبل أن يقعدنا المرض أو الألم، لنستمتع بأهلنا وأولادنا وما زال لدينا بعض الصحة، وبعض الطاقة، وبعض الأمل.
أعادنا الله إلى الكهف أفراداً وأُسراً ومجتمعات ومؤسسات وتيارات ودولاً، ليس من أجل أن ننام في الكهف مئات السنين، بل من أجل أن نقوم بواجبات الكهف لكي نستعد للبعث من جديد.

لنراجع أنفسنا

حبسنا في الكهف لنراجع أنفسنا وتصوراتنا ومواقفنا ومنهجياتنا ونجدد العهد ونتخلص من أسباب الإخفاق، ونصدق في التوبة، ونتأهب لقيامة فتية جديدة. وكما قال ابن عطاء:
(ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة).
حبسنا في الكهف لنتلمس فيه رحمات الله تعالى: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16].
ولنعيد الصلة برسالة السماء الأخيرة إلى الأرض: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27].
ولنقوم بترميم العلاقات وتناسي الخلافات وتوثيق الصلات: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
ولنعيد ذكر الله إلى القلوب الصدئة، والنفوس الخاوية، والعقول المضطربة، والعيون الزائغة والآذان المشوشة: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 24].
ولنتيقن أن رؤيتنا للمستقبل واستشرافنا لمعالمه لن تستقيم بمعزل عن مشيئة الله تعالى وحسن التوكل عليه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ …(24)} [الكهف].
ولنتفكر فيما أنعم به علينا، فنشكر له فضله، ونعترف بعظيم منته، ونحن نتلوا معاً: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39].
أعادنا الله تعالى إلى الكهف لنتعلم مع موسى والخضر – عليهما السلام – حكمة الله البالغة في كل حركة وسكنة، وموت وحياة، وعطاء ومنع.
ولننطلق مع ذي القرنين متمكنين من الأسباب، متعرفين على سنن الله الخلّاق، مستخدمين لها في التسخير، نحمل بها الخير للبشرية كلها.
وأخيرا فمن لم يحسن الإفادة من كهفه فلن تكون خسارته مفاجأة، ذلك لأنه لم يسمع تحذير ربه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف].