اتصالات عالم النّمل

الدكتور مصطفى إبراهيم حسن*

العدد السابع والأربعون خريف 2018

في سياق حديث القرآن الكريم عن نبي الله سليمان، ورد ذكر النمل، وذلك في قوله تعالى: ]وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17) حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين(19)[ ” سورة النمل”.

يذكر المفسرون في سياق كلامهم حول هذه الآيات الكريمة ما مفاده:

أي وجمع لسليمان جنوده من الجن، والإنس، والطير، وركب فيهم سليمان في أبّهة وعظمة كبيرة، وكان منهم قادة ينظمونهم، أي يكف أولهم على آخرهم؛ لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له، قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعه يردون أولاها على أخراها؛ لئلا يتقدموا في المسير.

وقوله: ]حتى إذا أتوا على وادي النمل[ أي حتى إذا مر سليمان – عليه السلام – بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل ]قالت نملةٌ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون[ أمرتهم بالدخول إلى مساكنهم، ففهم ذلك سليمان – عليه السلام– منها.

البيان العلمي

والنمل من الحشرات الاجتماعية، وهي الحشرات التي تعيش في مجتمع منظم، حيث يتكوّن هذا المجتمع من ملكة واحدة، وهي التي تتحكم في هذا المجتمع، والآلاف من الذكور، والشغالات، والجنود، وذكور النمل عملها محصور في تلقيح الملكة فقط، بعد ذلك تموت الذكور فورًا. ويصل تعداد النمل في المستعمرة إلى عشرات الملايين في بعض المستعمرات.

يشكل النمل مستعمرات تتراوح في حجمها من بضع عشرات من الأفراد الشرهة، التي تعيش في تجاويف طبيعية صغيرة، ومستعمرات منظمة جدًا.

ولذلك لا بد من تقسيم العمل والاتصال بين الأفراد، ويشابه هذا السلوك سلوك المجتمعات البشرية. هناك العديد من الثقافات الإنسانية استفادت من النمل في المطبخ، والأدوية، والطقوس.

ويُعزى نجاح النمل في الوجود على الأرض ملايين السنين إلى المعيشة الاجتماعية (العيش في مجتمع)، وقدرته على تعديل (البيئات المختلفة)، والاستفادة من الموارد الغذائية المختلفة المتاحة، والدفاع عن نفسه بطرق كيميائية، وميكانيكية مختلفة. وقد قامت دراسات مستفيضة لمعرفة خفايا حياة النمل، ومنها دراسة لعلماء مصريين – وتحديداً في جامعة الأزهر- حيث تم استخدام المجهر الالكتروني الماسح في كلية العلوم- جامة الأزهر، في تصوير الأجزاء المختلفة من النملة، والتي تقوم بعملية السمع، وأيضًا تلك التي تقوم بعملية إصدار الصوت في النملة، وهكذا تم تصوير الأعضاء الحسية المختلفة الموجودة على أعضاء السمع، وإصدار الصوت، كما تم تصوير جليد الحشرات لتفسير قوله تعالى: ]لا يحطمنكم سليمان وجنوده[.

مساكن النمل:

من المعلوم أن أعشاش النمل ليست واحدة، فمثلاً نمل المحاصيل يبني حجرات متصلة تحت الأرض. بينما يشبك نمل الخياط أوراق الشجر، ويصنع عشًّا أخضر إسطوانيّ الشكل، أما النمل الحفار فيبني مساكنه على هيئة حجرات داخل الأشجار. وقد يبلغ عمق مساكن النمل إلى 12 مترًا تحت سطح الأرض، وتصل مساحتها إلى 50 مترًا مربعًا.

كما يبني النمل مسكنه تحت الأرض على هيئة قباب؛ مما يجعلها تتحمل الضغط الشديد عليها، ولا تتهدم، كما يبني بينها طرقًا على هيئة اسطوانية تتصل مع بعضها البعض، ولها مداخل للدخول، وطرق أخرى للخروج في حالة الطوارئ عند التعرض للهجوم من نمل آخر، أو أي حيوانات أخرى. ويبلغ ارتفاع مسكن النمل حوالي ثلاثة أمتار.

معرفة تركيب الجدار الخارجي لجسم النمل (لا يحطمنكم):

من الوجهة العلمية، فإن هذا اللفظ بالذات له معنى علمي عميق، ولا ينفع في هذا المكان غيره، فنحن نعرف مثلاً أن الهيكل العظمي للإنسان هو عظامه، وهي بداخل الجسم، وعند كسر عظمة منه، أو أكثر لا يتحطم الجسد كله، بل من الممكن أن يُجبر هذا الكسر، وذلك عكس ما في النملة تمامًا، فإن هيكلها، مع كونه يحيط بها من خارج جسمها، فهي مغطاة بهيكل كيتيني (الجليد)، وأهم وظائف هذا الهيكل هو حماية الأعضاء، والأنسجة الداخلية من الجفاف، والأضرار الميكانيكية، فهو يتصل أيضًا بالعضلات التي ترتكز عليه، ويتأثر نموها به، ويتكيف بخواصه سلوكها. وهكذا فهو لا يغطي جسم الحشرة من الخارج، فيحميه فحسب، ولكن يبطن أيضًا الفجوات التي تتتكون أصلاً من الإكتوديرم، كتجويف الفم، والجزء الأمامي من القناة الهضمية، وكذلك الجزء الخلفي منها، والقصيبات الهوائية، والقنوات التناسلية الإضافية الخلفية، والغدد المتنوعة التي تفتح على سطح الجسم.. ولجدار الجسم مرونة محدودة، ولكنه غير قابل للتمدد إلا في فترة محدودة وقصيرة تلي الانسلاخ. ويختلف هذا الجليد في سمكه وصلابته كثيرًا، فهو رقيق جدًّا، مرن الأجزاء القابلة للحركة التي بين حلقات الجسم، ومن خواصّه الكيميائية أنه لا يذوب في الماء، أو في الكحول، أو في المذيبات العضوية الأخرى، كما أنه لا يذوب في الأحماض المخففة، ولا في القلويات المخففة، أو المركّزة، ولكنه يذوب في الأحماض المركزة.

ويتركب الجدار الخارجي الصلب من أربع طبقات مدمجة مع بعضها، بحيث إنها تكوّن طبقة سميكة يبلغ سمكها 4 ميكرونات، هذه الطبقات هي: الطبقة الإسمنتية، الطبقة الشمعية، وطبقة البولي فينول، وطبقة الكيو تكلين. هذه الطبقات تكوّن طبقة صلبة واحدة تشبه السيراميك، عند الضغط عليها فإنها تتكسر. وهكذا عند دهس النمل بالأقدام ينتج عنه تحطيم هذه الحشرة؛ لذلك كان التعبير القرآني الرائع والدقيق: (لا يحطمنكم) هو المناسب في هذا المقام.

النظم السياسية في عالم النمل (أنواع المهام):

1- النمل الاستعماري: هذا النوع يحتوي على ميليشيات من النمل تهاجم المستعمرات الأخرى…

2- النمل المسالم: الذي يعيش في تكافل مع أنواع أخرى من الكائنات…

3- النمل المزارع: وهو الذي يزرع الفطريات، ويشق القنوات، يبلغ حجم ملكة هذا النوع أكثر من 50 ضعف حجم الشغالة…

4- النمل الراعي: يقوم على الرعي، وحلب حشرة المن ليأخذ منها المواد السكرية التي يتغذى عليها…

5- النمل المفرد: يعيش مفردًا، وليس في مجتمعات، وهو يعيش تحت ورقة شجر، وفي يوم آخر يعيش تحت شجرة أخرى، وهكذا…

6- النمل الحاضن: يقوم هذا النوع بجمع البذور في مخازن خاصة، وينتشر هذا النوع في المناطق شبه الصحراوية حول العالم….

7- النمل المحارب:شبّه أحد العلماء هجوم النمل مثل هجوم التتار. وهذا النمل من آكلي اللحوم، مثل الأسود، والنمور.

ولكن كيف تتواصل كل هذه الآلاف من النمل؟وكيف تتفاهم ليقوم كل فرد بوظيفته؟

وكيف سمعت النملة سليمان عليه السلام من على بُعد كبير؟ومن أين تكلمت ليسمع بقية الأفراد تحذيرها؟

كيف تسمع النملة (أذن النملة)؟

توجد شعيرات حسيّة دقيقة على أرجل النملة، والتي عن طريقها استطاعت أن تسمع قدوم جيش سليمان – عليه السلام – من على بُعد 5000 مترًا، وهي المسافة التي تفصل وادي النمل عن مكان هبوط جيش سليمان – عليه السلام – من على الجبل، حيث أن انحدار جيش سيدنا سليمان – عليه السلام – من على الجبل بأعداده التي تُقدر بالآلاف، وأيضًا بما فيه من الخيول، قد أحدث ضربات شديدة على الأرض؛ مما نتج عنه حدوث ذبذبات انتقلت من خلال سطح الأرض خلال هذه المسافة الكبيرة، حتى وصلت إلى وادي النمل، وهناك كانت تقف النملة المنذرة، أو الحارسة، حيث التقطت هذه الذبذبات من خلال الشعيرات الحسية الدقيقة التي توجد على أرجلها، والتي تم تصويرها بالمجهر الإلكتروني الماسح، وانتقلت الذبذبات من الشعيرات الدقيقة إلى مخ النملة، والذي ترجم لها هذه الذبذبات الصوتية بأنها صوت جيش سليمان – عليه السلام- عند وصوله إلى وادي النمل، عند ذلك تكلمت النملة، وحذرت بقية أفراد النمل، والذين كانت لديهم الفرصة الكافية للدخول إلى مساكنهم. عندما سمع سليمان – عليه السلام – كلام النملة، والذي انتقل إليها من خلال الريح، تبسم – عليه السلام – ضاحكًا من كلام النملة، كما ذكر القرآن الكريم.

ولكن كيف تكلمت النملة؟

كيفية استجابة النملة للأصوات:

تتجه الحيوانات إلى مصدر الأصوات، وذلك من خلال تحديد الذبذبات الصوتية ذات الموجات فوق الصوتية. على الرغم من أن أذن الإنسان لا تستطيع أن تحس بالموجات فوق الصوتية إلا أن حيوانات كثيرة، ومنها الحشرات تستطيع سماع وتحديد الموجات فوق الصوتية.

الموجات فوق الصوتية:

وهي عبارة عن موجات كهرومغناطيسية لها طافة، والتي تنتج من خلال ذبذبات ميكانيكية تنتشر في الهواء، في صورة موجات.يُقاس الصوت بوحدة تُسمى ديسبل، بينما يُقاس تردد الصوت بالهرتز. تُعرف الموجات تحت 20 هرتزًا بالموجات تحت الصوتية، بينما تُعرف الموجات فوق 20ك. هرتز بالموجات فوق الصوتية. ولا تستطيع أذن الإنسان استقبال الموجات تحت الصوتية، أو الموجات فوق الصوتية، حيث إنها تستقبل الموجات في مدى من 20 هرتزًا، إلى 20 ك. هرتز. ولكن النملة تستطيع أن تصدر، وتستقبل الأصوات في هذا المدى. حيث تقوم النملة باستقبال ترددات ما بين 34-38 ك.هرتز. وتستخدم النملة هذه الترددات في الكلام مع بقية أفراد النمل، وفي التحذير مثلما فعلت النملة – كما ذكرتها الآية الكريمة – موضوع البحث، كما تستخدمها النملة في الاتصال الجنسي، وتحديد المفترسات.

من أين تتكلم النملة؟

تتكلم النملة من أعضاء إصدار الصوت، التي توجد على السطح الظهري لبطنها، أي أن النملة تتكلم من بطنها، وذلك من خلال السطح الظهري للعقلة الثالثة والرابعة. عضو إصدار  الصوت، والذي يُسمى الريشة (Plectrum) يوجد على الحافة الخلفية للسطح الظهري للعقلة البطنية الثالثة، وأيضًا عضو آخر يُسمى الملف (File or pars stridents)، والذي يوجد في منتصف السطح الظهري للعقلة البطنية الرابعة. عندما ترغب النملة أن تتكلم، فإنها تحرك الريشة إلى أعلى وأسفل في حركات مستمرة على الملف، والذي يتكوّن من عدد من البروزات الصلبة على جليد النملة، والتي تشبه أوتار الآلة الموسيقية، وعلى الرغم من أن بعض أوتار الآلات الموسيقية يصل إلى 6 أوتار فقط، فإن أوتار النملة تصل إلى أكثر من 50 وترًا، وعن طريق حركة الريشة على الملف، فإن النملة تصدر الأصوات التي تريدها، وباللغة التي تريد بها أن تتفاهم مع بقية أفراد النمل.

وجه الإعجاز العلمي في الآية الكريمة:

مع ما أوردناه سابقًا عن كلمة (لا يحطمنكم) فقد دلت الآية الكريمة أن النملة تكلمت، وذلك منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، بعد أن سمعت انحدار سليمان – عليه السلام- وجنوده من على الجبل، ومن مسافة حوالي 4800 مترًا، ثم قامت النملة عند ذلك في تحذير بقية أفراد النمل من سليمان – عليه السلام – وجنوده من أن يحطموهم، ومن الإعجاز العلمي في الآية الكريمة هو إثبات قدرة النمل على السمع من مسافات بعيدة جدًا، وأيضًا قدرته على الكلام، ولقد حدث ذلك في زمن لم يكن فيه أي تقنية (تكنولوجيا) تستطيع أن تحدد من أين استمعت النملة لقدوم سليمان، وجنوده، وأيضًا كيف؟ ومن أين تكلمت النملة؟ ولم يتم اكتشاف تلك الحقائق العلمية إلى الآن، فهذاالبحث يسجل لأول مرة في التاريخ مكان وجود عضو السمع في النملة، وتم تحديده في أرجل النملة، وهذا سبق علمي للقرآن الكريم، والأكثر من ذلك أن النملة تستطيع أن تسمع تردد الموجات فوق الصوتية، بينما الإنسان لا يستطيع ذلك، ولذلك فبمجرد نزول جيش سليمان، وجنوده من على الجبل، ووصولهم إلى بداية وداي النمل، انتقل صوت الجيش في صورة ذبذبات صوتية، انتقلت من خلال سطح الأرض حتى وصلت إلى أرجل النملة التي يكسوها العديد من الشعيرات الحسية، والتي تعرف بالشعيرات الحسية الميكانية، واسمها العلمي هو كاتيكا، والتي تحس بالموجات فوق الصوتية، ثم انتقلت ترددات الصوت من الشعيرات الحسية إلى مخ النملة، الذي ترجمها إلى معلومات، وهي أن سليمان وجنوده قد اقتربوا من وادي النمل، وعندما خافت النملة على بقية أفراد النمل من أن يحطمهم جيش سليمان – عليه السلام – بدأت في تحذير بقية أفراد النمل؛ لذلك فبمجرد نداء النملة بالتحذير جرى كل أفراد النمل إلى داخل المساكن، وبذلك تم نجاتهم من جيش سليمان – عليه السلام- والذي كان يتكون من الإنس والجن والطير. وهذا يدلنا على أن رسولنا الكريم قد أخذ هذا القرآن من لدن سميع عليم، وبأنه – عليه الصلاة والسلام-  لا ينطق عن الهوى.


*جامعة الأزهر

للراغبين بمتابعة البحث بكامله مع المراجع كاملة العودة الى الموقع www.eajaz.org.